الإمارات تجعل "استدامة الاستدامة" نهجاً وطنياً استراتيجياً
العدد الخاص بمناسبة عيد الاتحاد 53 - 2024
على الرغم من أنها ولدت في السادس من يوليو عام 1907، إلا أنها كانت تدعي ميلادها في سنة 1910، بحيث تربط تاريخ قدومها إلى الدنيا مباشرةً بالثورة المكسيكية لتصف نفسها بـ "ابنة الثورة"، وهي التي أصبحت رمزًا لتجسيد الثقافة المكسيكية الخاصة بالسكان الأصليين، فعُرفت بكونها يسارية الهوى، وانضمت إلى الحزب الاشتراكي فور بلوغها السادسة عشرة من عمرها، ثم التحقت بالحزب الشيوعي في أوائل سنواتها العشرين، لتصنع موقفاً اجتماعياً بانغماسها في السلالة الأصلية لحركة التغيير الكبرى التي كان يشهدها العالم حينها، وتبني مكانتها في الثقافة الشعبية التي أخذت بالارتفاع في مطلع السبعينيات، محيطة نفسها بالمفكرين الأحرار في مكسيكو سيتي، حتى صارت أيقونة سياسية في التسعينيات لحركة شيكانو والمعروفة بنضالها من أجل الدفاع عن الحقوق المدنية للأميركيين المكسيكيين.
وكطريقة أخرى لعكس المعتقدات التي اعتنقتها من خلال انتماءاتها الفكرية، وباستخدام نمط الفن الشعبي لاستكشاف قضايا الهوية، كانت تلف أوشحة ريبوزو حول كتفها، التي ارتدتها نساء الثورة المكسيكية خلال بداية القرن التاسع عشر واستخدمنها لتهريب الأسلحة من نقاط التفتيش الحكومية، ما ساعد على إنهاء النظام الديكتاتوري الذي استمر لفترة 35 عامًا، وبارتدائها له كانت تبرز تقديرها للنساء من جنسها قبل الاستعمار وما بعد الثورة على حد سواء، في إصرار واضح على الظهور بالزي الوطني الذي يعكس تأثير الحقبة الاستعمارية على التركيبة السكانية العرقية للأمة المكسيكية، مستوحية طلتها من مظهر الفلاحات، بتنانير ملونة واسعة، وخواتم على جميع الأصابع، فيما زينت ضفائرها السوداء بتاج من الأزهار، تاركة شاربيها الخفيفين وحاجبيها المعقودين على طبيعتهما فوق جمالها الأسمر الخمري؛ وهو ما جعل من فريدا كاهلو واحدة من أهم رموز الفن في القرن العشرين.
أحبت ماغدالينا كارمن فريدا كاهلو وجهها بمظهره الطبيعي، وهو النموذج المثالي للملامح الخام، كما تصالحت مع جسدها المتخشب وزينته بالأزياء المكسيكية الملونة؛ ليتحول مظهرها الفريد إلى عمل فني يُسافر معها أينما حلت تروج منه للجمال المكسيكي. حيث شدتها تفاصيلها عندما خانتها أعضاؤها فوق السرير المتحرك وتحت المرآة الضخمة المعلقة على سقف غرفتها، إلى اللحظة التي صار فيها وجهها المادة المفضلة لها في الغالبية العظمى من اللوحات التي رسمتها.
وكما تشير بورتريهات الفنانة المكسيكية، وأعمالها الأخرى أيضًا، أن حياتها لم تكن سهلة في مرة، وهي التي لم تحظَ بوضع صحي مستقر أو خالٍ من الأمراض، في أي يوم من أيامها؛ إذ عانت شلل الأطفال حين كانت في السادسة من عمرها ما أدى إلى التسبب بإعاقة في ساقها اليُمنى جعلتها طريحة الفراش لمدة تسعة أشهر، ولتخفِ اعوجاجها لم ترتدِ الفستان القصير إلا مع الجوارب الطويلة. ثم تعرّضت وهي في سن الثامنة عشرة لجروح بالغة إثر حادث اصطدام عربة ترام بحافلة كانت تستقلّها، تسبب بثُقب بطنها وجُرح ظهرها، كما أُصيبت بكسور بالغة في عمودها الفقري وحوضها أيضًا، مما اضطرها إلى التمدد من دون حراك لمدة سنة كاملة، وإجراء ما يزيد على ثلاثين عملية جراحية.
لاحقًا بُترت ساقها في عام 1953، وبعدها بسنة واحدة فقط أصيبت رئتها بالتهاب حاد؛ واصفة فقدانها المحفوظ في كِتاباتها اليومية: "لمَ قد أحتاج إلى قدمين ولديّ أجنحة لأطير". بينما كان الإجهاض المتكرر واحداً من بين تجاربها القاسية، إذ لم تستجب صلاحية جسدها غير الآمن لأجنتها إلى رغبتها بالإنجاب، ويموت معه تمامًا حلمها في الأمومة.
وبعد طلب من المرأة التي عاشت ما بين العامين 1907 و 1954 لطبق الألوان، لفظت الطبقة العليا فنونها من المجتمع، بينما الطبقة المتوسطة وما دونها اعتبروها جزءًا منهم وتقبلوها ليقدموها إلى الوسط الفني، وهي التي خطت جملتها الشهيرة: "ذاتي هي العنصر الذي أعرفه جيدًا وأستطيع رسمه"؛ فكانت قادرة على ذلك تمام القدرة.
إنها إذاً الرسامة المكسيكية التي اشتهرت برسم صورها الشخصية، وكان البورتريه الذاتي موضوعًا تعود إليه فريدا كاهلو دائمًا. فمن أصل 143 لوحة اشتغلتها، كان هناك 55 عملاً فنيًا عنها؛ معترفة بذلك في توصيفها لأعمالها: "أرسم نفسي لأنني في كثير من الأحيان أكون وحدي، إضافة إلى أن ذاتي هي أفضل موضوع أعرفه". ظهر البورتريه الذاتي مع أول لوحة شخصية لها بعام 1926 في "الثوب المخملي"، وقد أنجزتها بأسلوب رسامي البورتريه المكسيكيين في القرن التاسع عشر، الذين تأثروا بشكل كبير برموز عصر النهضة الأوروبيين؛ في حين حملت لوحتها الذاتية الثانية عنوان "الوقت يطير"؛ جاعلة من معاناة تجربتها الخاصة منبعًا لتسرح بخيالها، ولم يكن ذلك إلغاءً لواقعها المعيش، إذ إن فنها قابل للفهم وفيه الكثير من الوضوح الذي تكشفه الحقيقة وراء مظهرها الواثق في صورها الصارمة التي لم تبتسم فيها قط، ونرى معها الفكرة من الحفاظ على مظهر كائن لا يسمح لنفسه بإظهار ضعفه.
وفي مشهد آخر لها، تجدها كعروس بأبهى حلتها واقفة بين عالمين متناقضين، تحمل بيد راية المكسيك وبيد أخرى راية الولايات المتحدة الأمريكية وبين أصابعها سيكارة ترمز إلى مخلفات الحضارة الأخيرة، وهو الرمز الذي لازمها في الكثير مما رسمته وأصبح مكونًا رئيسيًا فيه. فضلاً عن عناصر أخرى طبعتها جنبًا إلى جنب مع أسلوبها الفلكلوري، كالعمود الفقري الحديدي أو الدم الذي يظهر من جرح غير ملتئم. فجاء فنها بمثابة توازن مستمر بين الحياة والموت، كما لو أنها كانت تأخذ قضمة أخيرة من الحياة.
وعلى خلاف لوحاتها الأخرى التي تظهر بوجهها دائمًا، نجدها في "ثوبي معلق هناك" ترسم فستانًا فارغًا مع الكثير من الفوضى المحيطة به، كأنها تقول: "قد أكون في أمريكا، لكن ثوبي فقط معلق هناك، إنما حياتي في المكسيك".
استطاعت ابنة كاهلو من خلال زيها أن تبني هوية ثقافية، وعكس مظهرها التراث المختلط، الذي نقل بيانًا سياسيًا مهمًا عن تاريخ المكسيك الغني، ليُروج له في المتاجر السياحية عبر صورها على الهدايا التذكارية، حتى انتشر ظهورها الأيقوني في كل مكان. فبعد مضي سبعين عامًا على وفاتها، لم يمحِ غيابها ألق حضورها، وهي التي تحولت قصة حياتها إلى فيلم سينمائي أخرجته جوليا تيمور بعنوان "فريدا الحياة المتنافسة" لتظهرها امرأة تعيش في الخيال السعيد وتنسى حياتها الصعبة الواقعية.
كما دخلت سيرتها التي ألهمت العديد من الكُتاب في أعمالهم، إذ تقول كريستينا يورس – مؤلفة كتاب فريدا كاهلو – الذي نشرته مؤسسة غاليمار ديكوفيرت: "كان سوء حظّها هو مصدر رغبتها في العيش". في حين روجت ملابسها في عالم الأزياء، وأعيد وجودها في ثقافة البوب مع ظاهرة "فريدامانيا"، والأمر المثير للإعجاب في الصيحة "الفريدانية" هو عدد منافذ بيع الملابس وتوسع الكثير من محلات المجوهرات التي اهتمت بتخليد هذه الفنانة كأيقونة للموضة.
أما ملامحها فقد صارت خطًا تجاريًا لمنتجات مستحضرات التجميل في شركات صناعة المكياج، التي أرادت تشجيع النساء من بني جنسها على احتضان جمالهن الفريد، وهي التي كانت معروفة باعتزازها العالي في ثقتها الشخصية، فصُنعت لها مُجسمات من دمى باربي العالمية. ولا بد من ذكر أنه في عام 2010، ومن أجل إصدار ورقة نقدية جديدة بقيمة 500 بيزو، اختار البنك الفيدرالي المكسيكي تزيين جانب واحد من الورقة النقدية بصورة فريدا كاهلو، والجانب الآخر يحمل صورة ديغوو ريفيرا، الضفدع الخاص بها. كما أبرمت شركة غوغل شراكات مع 33 متحفًا من أجل الحفظ الرقمي لأشهر أعمالها ونشر أخرى جديدة لم يُشاهدها جمهورها من قبل، إلى جانب خطابات نادرة ومفكرات شخصية تقص حكايتها.
تركت إرثها دون أن تنظر إلى العالم وجهًا لوجه إنما أرغمتْ على مشاهدته مُستلقية في العديد من المتاحف حول العالم، أهمها متحف الفنّ الحديث في باريس، وكذلك بالولايات المتحدة الأمريكيّة، وبالطبع في المكسيك بعد أن تم تحويل البيت الأزرق الذي عاشت فيه مع والديها ثم مع زوجها حتى توفيت فيه دون أن يتم تشريح جثتها أبدًا، إذ لا يزال رماد جسدها محفوظًا إلى اليوم في جرة من الفترة القبل كولمبية. ليتحول مكان عيشها إلى متحف يضم جميع صورها الشخصية وكافة متعلقاتها الخاصة التي تركتها وراءها، من لوحات رسمتها طوال حياتها ورسائل كتبتها بعد أن اكتشفت وجهها، فغطت بها سنوات عيشها للتأقلم مع مصيرها، وهو ما كشفته القصاصة التي كتبت فوقها آخر ما عبرت عنه حين قالت: "أتمنى أن تكون النهاية مريحة، وآمل ألا أعود أبدًا".
وبالطبع بقي في المكان الملابس التي ارتدتها، والمجوهرات التي تزينت بها، حتى تلك الأدوات التي استخدمتها لتساعدها على المشي؛ وتخضع جميعها لإجراءات صارمة إذ يتم عرضها دون أن تُعار للاستخدام الشخصي.
وإلى اليوم ظل باب بيتها مفتوحًا لزائري حديقتها التي أمضت فيها ساعات إلهامها، ليقول عنها البستاني الذي احتفظ بالنباتات التي زرعتها مشذبة: "لا تظهر الحديقة فقط في لوحات فريدا كاهلو، لكنها أيضًا كانت تزين نفسها بورودها، لذلك فنحن نحاول زراعة أكبر عدد من الأزهار التي لعبت دورًا في أعمالها"؛ كما يُقام في مسقط رأسها مهرجان سنويّ يتم فيه الاحتفاء بفنّها.
التعليقات