الدفتر الكبير في حقيبة يد أغوتا كريستوف

الدفتر الكبير في حقيبة يد أغوتا كريستوف
الدفتر الكبير في حقيبة يد أغوتا كريستوف

كانت بداية الحرب العالمية الثانية حين اعتادت أغوتا كريستوف على قراءة أي شيء أمامها، ولم تنل الإعجاب إلا من قبل جدها الذي كان يطوف ببنت السنين الأربعة بيوت الجيران لتقرأ عليهم الجرائد دون خطأ يوقفها، وقد كانت تقول لجدتها إنها هي من سيروي حكاية قبل النوم، فهي أخت الكاتب المعروف في بلاده والتي كانت تستغل العمر الصغير له وتقص عليه حكايات من نسج خيالها محاولة معه بكل الحبكات لكي يصدقها.

ثم باتت الكتابة كل ما يهمها، فكتبت عندما كان الجميع نائماً باللغة المجرية ولما يقارب اثنتي عشرة سنة. حتى بدأ يتكون عالمها الأدبي الذي ظل مجرد شأن هنغاري، دون أن تتمكن من الاحتفاظ بأي من تلك الأوراق التي ضاعت جميعها وتركتها خلفها مع انتمائها اللغوي للأوغرية، بعد أن جربت الخوف من الحرب كثيراً لتنام على الحدود. دون أن تحمل معها من بيتها في تشيكفاند سوى حقيبة ممتلئة بمعجم لغوي، ومشروع كاتبة في نيوشاتل تستمد مادتها هرباً من بودابست.

لماذا غادرت البلاد؟

لامت نفسها على ذهابها إلى أبعد من تشيكفاند، وقالت إنه لم يكن عليها المغادرة إلى نيوشاتيل، لكن التحاق زوجها الأول بالحقل السياسي دفعهما معاً حتى لا يصير قضبان السجن هو الباب المقفل عليهما معاً وابنتها ذات الأربع سنوات خارج حضنها ذي العشرين، فنزحا فراراً من جنود الاتحاد السوفيتي الذين قمعوا الثورة المجرية عند اندلاعها عام 1956 عبر غابات كوشيغ، ليتعرضا بعدها إلى خطر الاعتقال بتهمة الخروج من موطنهما دون تصريح، ثم يُمنعا من دخول الأراضي الهنغارية، دون أن توجد إمكانية للعودة مطلقاً، ويصيرا لاجئين في سويسرا التي استقبلت ضيوفها في معامل صنع الساعات، بينما استطاع مهاجرون غيرهم من إكمال طريقهم إلى بلدٍ ثالث لأنهم لم يحتملوا العيش في قلب أوروبا الغربية، وقرر هاربون آخرون من نظام يرى في الناس مجرد أرقام إنهاء حياتهم منتحرين كل بالطريقة التي أرادها لنفسه.

وأما غيتي فكلما عادت بذاكرتها إلى مشوار عبورها الحدود بطريقة غير شرعية في الوصول إلى النمسا، تتعجب من قلة الذكريات التي حفظتها عن تلك المرحلة، وكأنما جرى كل ذلك في حلم أو في حياة أخرى، لترفض ذاكرتها استعادة تلك اللحظة بالتحديد التي فقدت فيها جزءاً من حياتها، متخيلة تفاصيل روتينها اليومي ولا تجد نفسها إلا صدفة في سويسرا، حيث الفرنسية تخرج من كل الأفواه التي حولها وتحشر في فمها مفردة أمية، مُعترفة أنها لم تكن تستطيع تخيل وجود لغة أخرى، أو أنه حتى بإمكان الإنسان أن ينطق بكلمة لا يفهمها. ومن هنا بدأت نضالاً طويلاً لقهر تلك اللغة المركبة التي لم تقدر أن تتحدث فيها لأكثر من ثلاثين سنة من دون أخطاء، ولم تتمكن من الكتابة بها فوق العشرين سنة من غير الاستعانة بالمعجم اللغوي الذي كانت ترجع إليه دائماً مفتقدة معه المجرية.

الكتابة بلغة العدو

كان من الصعب عليها أن تكتب مساءً بالهنغارية عن نهار قضته كله في الحديث بالفرنسية لتقرر أن تخط بالأخيرة، واصفة إياها في مقابلة أجريت معها: "لقد كانت الفرنسية تقتل لغتي الأم، كانت بالنسبة إلي لغة العدو". وتقر السويسرية من أصل مجري أنها لم تكتب قط بالفرنسية كما يكتبها الكتاب الفرنسيون ولادة، لكنها حاولت كتابتها كأفضل ما تستطيع؛ إذ إنها لم تخترها ولكن فرضتها عليها الظروف، كاشفة أن ذلك كان تحدياً تخوضه امرأة صار عليها أن تتعلم لغة اللجوء على كبر، وهي التي كانت تحسن لغتها الأم في أول مشيها، وشاركت غصتها في ذات اللقاء قائلة: "لو لم أكن لاجئة في سويسرا، لكنت في ألمانيا أو النمسا أو بريطانيا، ولكتبت بلغتهم كما فعلت مع الفرنسية." وحكت كيف أنها عندما بلغت السنة التاسعة من عمرها رحلوا من قريتهم وسكنوا في مدينة حيث ربع السكان على الأقل كانوا يتحدثون الألمانية التي كانت بالنسبة لهم لغة مستعمر لأنها كانت تذكرهم بالاحتلال النمساوي لبلادهم، وبعد سنة جاء جنود آخرون ليفرضوا اللغة الروسية في المدارس ويمنعوا تدريس اللغات الأخرى.

ومن المفارقة أن روسيا تعد البلد الأكثر قراءةً لنتاجاتها الأدبيّة مع أن روايتها الأولى التي أصدرتها في عمر الخمسين جاءت مُعارضة للروس، لتولد صاحبة الدفتر الكبير من عداوتها لثلاث لغات قدموها لها الاحتلال الألماني والاستعمار الروسي واللجوء السويسري، حيث تمت ترجمتها بعد ثلاثين سنة من الإقامة في المدينة الأخيرة إلى خمس وثلاثين لغة منها العربية التي نقلها إليها بسام حجار ومحمد آيت حنا؛ مؤكدة أنها وإن كتبت بالفرنسية الدارجة إلا أنها بقيت كاتبة هنغارية يعزيها أن "ثلاثية مدينة ك" ذاع صيتها في اليابان، ولاحظت أن الجميع يحب كتبها في إيطاليا عندما زارتها، أما في ألمانيا فكانوا يعرفونها بالاسم!

الدفتر الكبير في حقيبة يد أغوتا كريستوف
التسلح بالمعجم الفرنسي

تمكنتْ أغوتا كريستوف من صياغة هويتها الإبداعية بحيثُ أبدعت في اشتقاق منهجها الخاص في الكتابة؛ فهي من فئة الكتاب الذين لا يصعبُ عليك التعرف على أسلوبهم، ومعظم ما يمكن أن نطلع عليه في سيرتها سيحيلنا مباشرة إلى روايتها الأشهر التي كتبتها وهي تتمرّن فيها على لغة المهجر -"الدفتر الكبير"- التي حظيت بنجاح استثنائي عام 1987، وصنفت ضمن أكثر ثلاثة كتب مبيعاً في العام نفسه مترجمةً لأكثر من لغة حية، ثم جاءت فيما بعد "ثلاثية ك" "الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة".

وحازت أعمالها الأخرى كرواية "أمس" ورواية "الأمية" ورواية "سيّان" على مقروئية عالية جداً في بلدها الهنغاري؛ إذ تجعلك تشعر بما تفعله الحرب دون أن تكتب كثيراً عن الغارات الجوية والجرحى المرميين والمقابر الجماعية ومعسكرات التعذيب، إنما تمر الكثير من كلماتها على الأرواح التي تعيش في وسط حروب لم تستأذن قبل أن تدخل عليهم، وهي التي لم تفصح عن أولئك الذين تعلموا عدم قول الحقيقة حينما لا يكون ثمة نفع من قولها، بالضبط كما لو كانت تُعبىء الصفحات بحفنات من البارود القابل للانفجار فوق أي من الأسطر، ذلك أن الحرب تفعل أكثر من ذلك.

وربما لكونها مجبرة على الكتابة بلغة أخرى غير لغتها الأصلية كان سبباً في تلك الجمل القصيرة ذات الطابع القاسي التي دونت من خلالها سيرتها كلاجئة فقدت لغة التواصل مع محيطها الجديد، فلا يسمع غير كلامها الذي يتوالى بصيغة توضيحية كما لو أنه طلقات من الرصاص.

إنها من صنف كتّاب أوروبا الشرقية المنشقين من بلدانهم التي تلقت أقسى مآسي القرن العشرين، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي عادت إلى مدينتها للزيارة ولم تستطع الاستقرار، فيبدو أنه من يؤخذ منه وطنه يصعب أن يعود إليه بعد أن يُترك له، لتقلع بعدها عن الكتابة خلال السنوات العشر الأخيرة من حياتها قائلة: "لم تعد الكتابة تمنحني شيئاً"، وهي التي كانت عندما تجلس للكتابة تبدأ بجملة، أية جملة، ويتوالى السرد الذي تكتبه بيدها لعدم امتلاكها آل طابعة، بينما تقوم وتقعد عدة مرات لتنهي باقي أعمال المنزل حتى تفوح منها رائحة الورق.

لكن الحال تبدلت عندما صارت من دون حاجة للكتابة وفقدت اهتمامها بالأدب، وقد كان كل ما كتبته يدعم قولها هذا حتى جاءت اللحظة التي قررت فيها أن تتوقف؛ لأنه ليس ثمة ما عندها لتقدمه بعد ثلاثة وعشرين عملاً كتبتها باللغة التي تعاديها، دون أن تنشر منهم سوى تسعة أعمال آخرها صدر في عام 2004 حيث المنفى الذي قدر لها العيش فيه حتى آخر أيامها، منذ ذلك اليوم الذي قطعت فيه الحدود الهنغارية – السويسرية مشياً على الأقدام في سن العشرين.

التعليقات

فيديو العدد