قصة رحلة من أجل المسرح
العدد 160 - 2024
منذ مجموعتها القصصية الأولى "قصاصة من الورق" عام 1995، والكاتبة الإعلامية نجيبة محمد الرفاعي تحكي وتقص وتسرد للكبار، كما تكتب للأطفال والفتيات، وكتاباتها بمجملها تعتمد على البعدين النفسي والاجتماعي من الناحية الموضوعية، وتتمحور حول الشخصيات البطلة وعالمها الداخلي، وتداخلاته مع العالم الخارجي، لتنجز قصصاً ذات اهتمام بالقضايا الإنسانية بين معاناة وبوح وفرح ومونولوغ وديالوغ، معتمدة من الناحية الفنية على العديد من العوامل، منها توظيف الوصف المكاني والزماني، وحركته بين الماضي والحاضر والمستقبل، والتحرك ضمن مقول القول ومنطوق الشخصيات من خلال زوايا تبئير الراوي العالم بكل شيء، سواء في ضمير المتكلم، أم المخاطب، أم الغائب، وتصوير المشهدية السردية بواقعية، والالتفاف عليها من خلال البعد الإشاري، ومحاولة إشراك القارئ بين التوقع والمخيلة، إضافة إلى ديناميكية الانتقال من مشهد قصصي لآخر، أنجزته من خلال تكثيف الحكي والمنطوق والوصف والتصوير، بينما انحازت في خاتمة العديد من القصص عن أفق التوقعات.
وكل ذلك ساهم في أن تكون إيقاعات جملها القصصية سريعة، متناغمة مع البنية، بعيداً عن الترهّل والحشو، قريباً من التشويق والإضاءة على حياة شخوص حياتية موجودة في كل مكان وزمان، منها المنافق، والكاذب، والمقنّع، والواضح، والمتألم، والحالم، والبسيط، والفقير، والجشع، والكريم.
وما بين هاتين الثيمتين الموضوعية والفنية، تتحرك مجموعتها القصصية "أبحث عني/ إصدارات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات/ 138 صفحة/ تصميم الغلاف أحمد حسن"، لتضعنا الكاتبة، ومنذ العنوان، في حالة من البحث عن الذات، والتأمل في هذا العالم، وضغوطاته الحياتية المؤثرة، ونتائجها في تشكيل حالة من الشتاتات المختلفة، الداخلية والبيئية والطبيعية والاجتماعية، وذلك عبْر (26) قصة، مرتكزة على ضمير المتكلم، المتحرك بين شخصية وأخرى، وهو ذاته ضمير المؤلفة، ويتفرع، أيضاً، ليكون ضمير القارئ، وطبعاً، كل ذلك من خلال الدقة في توظيفه ضمن النسق السردي وعناصر البنية ليكتمل النسيج القصصي مع حكاياته وأبطالها المشكّلين لبيئة تتضمن شخوصاً اجتماعية مهمشة مثل (بائع المناديل) و(قرص الشعير) و(أحلام يسكنها الألم)، بلغة أقرب إلى الحياة المألوفة.
والملاحظ أن العنوان يتألف من كلمة واحدة (طلسم)، (باب)، (عين)، (أقنعة)، (حلم)، (بيع)، أو من كلمتين (حديث البحر)، (وقت يزحف)، (حبيبي المزعوم)، (وجبة عشاء)، أو من ثلاث كلمات تألفت منها قصتان: (حفلة لإعدام كتاب)، (أحلام يسكنها الألم).
واللافت أن عنوان المجموعة هو ذاته عنوان القصة الرئيسية لهذه المجموعة، والتي تحكي عن عذابات المرأة، خصوصاً، عندما تكون زوجة سفير دولة، وما تعانيه من تنقلات بين البلدان نتيجة طبيعة عمل زوجها، وانعكاسات هذه التنقلات على حياتها الداخلية، واستقرارها الذاتي والعائلي والمكاني، والاحتفاظ بهذه الآلام في أعماقها إلى أن تثق بإحدى صديقاتها، فترشدها إلى الحل من خلال "الحب" وبناء علاقة جديدة.
وهنا، تبدأ الحبكة الداخلية لبطلة القصة، وبوحها للقارئ عن خطورة هذه الفكرة، وكيف سيكون موقفها العائلي من أهلها وزوجها وأولادها ومجتمعها، وما ستؤول إليه الأحداث فيما لو فعلت، إلا أن الكاتبة تتدخل، في الوقت المناسب، لتضفي بعداً تشويقياً على الدخول في هذه العلاقة الجديدة التي تتهيأ لها بطلتها من خلال عدة ظروف مثل نوم العائلة وسكون الليل والتسلل إلى الغرفة، ومحاولتها الاتصال به، وهي تحكي عن عالمها النفسي: "وبعد طول تفكير وتردد وتأجيل، عزمت على أن ألج التجربة، فانتظرت حتى نام أبنائي، وتبعهم زوجي، ثم دخلتُ غرفة المكتب، وأوصدت الباب ورائي".
إلا أنها تكمل الصراع الدرامي بين إقدام وتراجع: "وفي داخلي ارتباك غريب، فصوت يدفعني للأمام، وآخر يجرني إلى الخلف، جلست على الكرسي، واستحضرت كل جوعي وفراغي وحاجتي، ثم قررت الاتصال به".
ثم تتخذ قرار البدء بالفعل، لكنها تفاجئ القارئ بأفق توقعات آخر عندما تبدأ البطلة بقراءة القرآن الكريم: "مددتُ يدي، وحركتُ شفتيّ ونطقت: "(ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)"، مما يجعلها تجد ذاتها لتكون أكثر صبراً واحتمالاً لمجريات الأحداث القادمة مع زوجها وواجباتها الأسرية والاجتماعية كزوجة سفير، متأقلمة مع التنقلات المتنوعة، ومكتشفة الطريق المضيء للاستقرار النفسي والأسري رغم المكانية المتحركة.
تقدم الرفاعي في هذه القصة طريقة العلاج المضمونة لكل ذات إنسانية تائهة، أو مكتئبة، أو مثقلة، موضحة أن مرساة الحياة لن تستقر إلا بهذا النحو من الإيمان العميق المؤدي إلى إيجاد الذات المتأملة في الطبيعة والكون من خلال خروجها إلى الفضاء الرحب وامتداد النقاء النابع من الجمال الرباني، والحب النابع من الإيمان العميق.
ولا تخلو المجموعة من الانتقاد والنقد للعالم الذي نعيش فيه، ولا من المكاشفة عن بعض ما يحدث في المشهد الأدبي، بأسلوب ساخر، يجعلنا نضحك من شدة الألم، ومنها قصة (طلسم) الناقدة بسخرية لاذعة لأشباه الكتّاب، والزيف المستشري في محيط شخصية "طلسم" وما يكتبه من "طلسميات" على الطريقة "الدادائية"، فتكون كتاباته أقرب إلى "الشعير" لا "الشعر"، وما ينعكس من بنية النص من خواء فكري لمجتمع القصة، وما تتضمنه من "صحوة ضمير" تكشف السر أمام القراء، عن "المنتديات الأدبية" والمنتسبين إليها في الفضاء الإلكتروني، وكيف يتم التصفيق للكتابة السطحية والمزيفة، وكيف يتخدّر الكاتب المزيف بالتعليقات، ويسبح مع التيار لولا تلك الصحوة.
وبالمقابل، وفي هذا البعد ذاته، تأتي قصة (حفلة لإعدام كتاب)، التي تبدأ مع بطاقة دعوة لحفل إعدام الكتاب الجديد للشخصية البطلة، وما يرافقها من حيثيات حياتية تبدأ مع يوم الأحد حاكية عن المدعوين وظروفهم بطريقة إخبارية، مع وصف لنظراتهم الساخرة من القرار إضافة لتهكمات الزوجة، وما يليها من أيام الأسبوع وهي تكشف عن معاناة الكاتب المجهول "خميس عبد الرحمن"، وإحباطه والمجتمع المحيط به إلى يوم الجمعة وساعاته المسائية التي يجلس فيها مع تابوت مزين للكتاب وحفرة جاهزة لإشعال النار، وكأنه يذكّرنا بما فعله "أبو حيان التوحيدي" الذي تذكره القاصة بوضوح، وتداخلات الفكرة مع بطلها حدّ الذوبان والتلاشي، لكن، بعد اتصالات من الأصدقاء في مجالي الإعلام والكتاب، إضافة لأصوات أخرى حضرت بخاطر الكاتب المجهول منها صوت ابنه: "أبي الذي كتبها"، أو مناداة جاره أبو سالم: "أديبنا الكبير"، وتمضي 3 سنوات لنصل إلى 14 شباط ـ فبراير 2025، كزمن مستقبلي يصبح فيه الكاتب مشهوراً وروايته بطبعتها الثالثة مع القراء.
بينما تأتي قصة (شغف) لترينا معاناة المرأة من أجل القراءة والكتب وكيف يتعامل الزوج معها مرغماً على الذهاب إلى المكتبة لتختار ما تقرأه، ويتأفف، ويستهزئ، وبالمقابل، تبدو المكتبة عالم الأب الخاص في قصة "محبوبته" حين يعلق في الخاتمة، مرغماً، "مكتبة للبيع".
للحياة العائلية حضورها المتوقف عند الخلافات بين الأم والأب، وآثارها على الأطراف، خصوصاً، الأطفال، ومنها قصة (سفينة) الرامزة منذ العنوان إلى عدة دلالات منها مباشر كونها تموج بلا استقرار إلى أن تجد مرسى، ومنها غير مباشر كحالة تعكس الأمان والغرق في آنٍ معاً، إلا أنها تضمر، بلا شك، ذات الطفل المتأرجحة بين خلافات الأم والأب، وآثارها على نفسيته وأعماقه ومستقبله وسلوكه العبث.
ولقد أنجزت الرفاعي هذه المشهدية بالطريقة الديالوغية بين الزوج والزوجة الأقرب إلى منصة مسرحية، يظهر فيها صوت الكاتبة كخلفية للقصة، أو كشخصية أقرب إلى الحكواتي، تحكي بضمير المخاطب عن درامية الصراع الجواني للطفل الذي يلجأ للتعبير عن نفسه بعبث جديد "ينذرهما بأن السفينة تكاد أن تغرق".
وكذا، تنضم قصة (أقنعة) وهي ترفع قناعاً تلو قناع عن الحياة الزوجية المبنية على الزيف، وكيف تكون للزوج علاقة مع امرأة أخرى، وكيف تتصرف زوجته التي تعلم بذلك دون أن تفصح له، وتعتبره مصدراً للمال فقط، كأسلوب انتقامي، وكيف يدعي كلاهما المحبة واللطف معاً، وتبدو بنية الحكي بواقعيتها أقرب إلى سيناريو مسرحي بمشهد واحد.
وضمن الجوقة الاجتماعية، يحضر عالم النساء وطريقة تفكيرهن مع قصص أخرى، منها "عين" وكأنها عين الجارة الحاسدة التي تصيب، فتدمّر، وتأتي البنية الحكائية بواقعية اللقطات المشهدية، وما فيها من تصوير لحركة الشخوص والمكان.
بينما تحضر شبكة من الوجدانات وآلامها مع "الأم" في قصة "حديث البحر" وحكايات أمواجه كخلفية متحركة مع مونولوغ الأم وذكرياتها، وحالتها الحالية مع ابنها وزوجته "حصة"، وما يدور بخاطرها من حكايات عن أبناء تخلّوا عن أمهاتهم، وهو ما فعله ابنها حين تركها في مكان ما قريب من البحر ومضى، وتأخر وهي تنتظره، وكيف تعاطف معها أحد المارة، وفي اللحظة الأخيرة التي كان يفتح لها باب السيارة ليوصلها إلى بيت ابنها الذي لا تستدل عليه، يحضر الابن وتكتمل فرحتها بالعودة، وتنجح الرفاعي في حبكة الحدث وحكاية الذكريات ودمجهما مع الواقع، ومفاجأة القارئ بنهاية خلوقة سعيدة.
تبرز بعض الشخصيات الاجتماعية المنكسرة حتى التهشيم، والمهمشة حتى الإهمال، منها شخصية الطفل في قصة "بائع المناديل" الذي يدرس ويبيع مناديله ليساهم في إعالة نفسه وأسرته، وهذا ما نعلمه من خلال المرأة الزائرة، المقيمة في أحد الفنادق، وكيف تتوالى الأحداث لدرجة أن رجلاً من رجال أمن الفندق يضرب الطفل ضرباً مبرّحاً، بينما هي كانت قد أخذت منه المناديل دون أن تدفع له بسبب رجل الأمن، لكنها، تظل باحثة عنه حتى داخل القصة التي أتت بمنطوق المرأة وما تشهده في الشارع من أطفال يتاجرون بسلع بسيطة ويتشابهون، وكيف تعيش بصراع جواني بعد القسوة ثم لين القلب.
وبتصويرية سردية تشتبك مع بناء الشخصية، نلمح في قصة "قرص الشعير" التركيز على الأم التي تعمل من أجل تربية بناتها، وكيف تتمتع بأخلاق وكرامة رغم عقوبة السيدة للنساء العاملات بأكل قرص الشعير دون غصة، ومن تغص تكون سارقة "القرط"! ولكنها تغصّ وليست بسارقة، أليست من حافظات القرآن الكريم، ومن اللواتي تعلّمه، وهي ذات كرامة؟
وهذه الكرامة تحضر مع خاتمة قصة أخرى هي "القيد" التي يقرر فيها المغترب العودة إلى بلده بعد عمر أمضاه وشعر معه بفقدان إنسانيته لأنه أصبح مجرد مرسل للمال بالنسبة للعائلة، بينما هو يحرم ذاته من كل شيء.
التعليقات