الزراعة العضوية في الإمارات
العدد الخاص بمناسبة عيد الاتحاد 53 - 2024
أمل وسط كل الإحباطات، طاقة متجددة مع كل بذل، إرادة فولاذية مع كل دواعي الوهن، ضوء يهدى مع كل انحسار للهمة.. هي الأم، كل أم تبذل من حيث لا شيء وتمنح من حيث لا تملك، تسوق التباديل والتوافيق بقوة وعزيمة للوصول إلى معادلة النجاة ليس بنفسها وإنما بصالح أبنائها.
هكذا يبدو معنى الحياة لدى الأم عندما يصيبها المرض؛ أحلام يخفت بريقها، مسيرة تتعرقل خطواتها، انكسار يغزو النفس والروح والجسد. فتسرع للخروج من نتائج المعادلة، لتكتفي بكونها عاملاً محفزاً في معطياتها.. فهي ذاهبة إن طال العمر أو قصر، لكنهم باقون.
انطلاقاً من كل ذلك، إضافة إلى ما أعلنته منظمة الصحة العالمية في عام 2019 بأن 18 مليون شخص في العالم مصابون بالتهاب المفاصل الروماتيدي، وأن 70 في المئة منهم من النساء ممن تتراوح أعمارهن بين ال25 و 55 عاماً.
كانت استفاقة الروح البحثية لدى "نهى محمد عبد الهادي" من خلال رسالة علمية تقدمت بها -للحصول على درجة الماجستير- إلى جامعة القاهرة، كلية التربية قسم علم النفس الإرشادي تحت عنوان (الإسهام النسبي لمعنى الحياة واستراتيجيات مواجهة الضغوط النفسية لدى مريضات الروماتيد أمهات المراهقين).
التهاب المفاصل الروماتيدي مرض مزمن يصيب جهاز المناعة الذاتية، فيهاجم الخلايا السليمة في الجسم. مما يتسبب في التهاب (تورم مؤلم) في الأجزاء المصابة من المفاصل غير أنه قد يهاجم بطانة العديد من المفاصل في وقت واحد، مثل مفاصل اليدين، المعصمين، الكتفين، المرفقين والركبتين مما يؤدي إلى تلف في أنسجة المفصل الذي يسبب بدوره ألمًا طويل الأمد أو مزمنًا مع اختلال الاتزان، وقد يصل الأمر إلى إصابة الرئتين والقلب والعينين مع إعياء مستمر، مما يقلل من قدرة المرضى على أداء المهام اليومية.
لذلك توجهت الباحثة إلى عينة من مريضات الروماتويد أمهات المراهقين تبلغ (314)، تراوحت أعمارهن بين (60-40 سنة)، ذلك من خلال مقابلات شخصية تمت في مستشفى القصر العيني، مستشفى القصر العيني الفرنساوي، المعهد القومي للجهاز العصبي والحركي ومعهد الشلل بإمبابة بالجيزة.
ثم توصلت إلى أن أحد أهم التحديات التي تواجهها الأمهات المصابات بالروماتويد هو قدرتهن على توفير الرعاية اللازمة للأبناء والتي تتطلب مجهودًا بدنيًا ونفسيًا كبيرًا، خاصة في مرحلة المراهقة، التي تبدأ مع البلوغ في عمر (10 إلى 12) عامًا حتى 19 سنة، وكما هو معروف في هذه الفترة تحدث تغييرات كبيرة فى الخصائص البدنية والنفسية، والاهتمام الجماعي حيث تتغير صورة الجسم، مفهوم الذات، والاحترام الذاتي، ويحدث النمو المعرفي والاجتماعي وما يتبعه من تمرد الأبناء على السلطة الوالدية وهو ما يشعر الأمهات مع الوقت بالذنب والإحباط والاكتئاب والقلق بسبب عدم قدرتهن على المشاركة الكاملة في حياة أبنائهن وأنشطتهم.
إضافة إلى ما يمكن أن تتأثر معه حياتهن المهنية بشكل سلبي أيضاً، وهذا من شأنه أن يصل بهن إلى حالة عدم الرضا مما يؤدي إلى العزلة والوحدة.
الجدير بالذكر أن مشكلة الدراسة قد تجلت لدى الباحثة من خلال تجربة شخصية مكنتها من التفاعل مع عدد كبير من الأمهات اللواتي يعانين من مرض الروماتويد، لاحظت خلالها أن معاناة المريضات، معاناة مزدوجة ما بين آلام المرض وشعورهن بالعجز عن القيام بمهامهن بنفس درجة الأداء قبل المرض.
وبالتالي -كما أكدت الباحثة- يتطلب التعايش مع الروماتويد قدرًا كبيرًا من التكيف النفسي والدعم الاجتماعي والدعم الطبي والنفسي لتمكينهن من إدارة أعراض المرض بشكل أفضل.
وذلك من خلال فهم ما يحدث لها بعمق وأن تترابط لديها الأحداث والأدوار والمهمات، وتكون حياتها واضحة ومفهومة بالنسبة لها، وأن يكون لها هدف تحيا من أجله وتشعر بأهمية وجودها في الحياة وتسعى لتحقيق أهدافها.
وعن أسباب الإصابة، توصلت الباحثة إلى أن العامل الوراثي كما أكدت الدراسات يلعب دوراً ثانوياً في الإصابة، بينما يعتبر خلل جهاز المناعة، والذي يبدأ بسلسلة من فقدان جهاز المناعة لخصائصه المختلفة السبب الأساسي في الإصابة. مع تأكيدها على أن ضغوط الحياة المختلفة تعتبر عاملاً هاماً في حدوث ذلك الخلل، فبعض الأشخاص يجدون صعوبة في التأقلم مع تغيرات الحياة السلبية التي تصادفهم، بل ويعانون كثيرًا في تقبل ذلك.
حاد، مزمن، ومخرب تلك هي أنوع الروماتيد، يبدأ الحاد بارتفاع شديد في درجة الحرارة، ويصاحب ذلك انتفاخ وتورم وألم شديد في جميع المفاصل المصابة، وهذا النوع قابل للشفاء تماماً.
يعتبر المزمن هو أخطر أنواع الروماتويد لما يحدثه من تشوهات دائمة حيث إن الالتهابات تظهر في الكيس الذي يفرز السائل الزلالي الذي يسهل الحركة، وهو قابل للشفاء أيضًا في حالات كثيرة.
أما المخرب فهو يصيب غضاريف المفاصل الكبيرة ويظهر في السن المتقدم، ويبدأ بالشعور بالألم أعلى وأسفل المفصل المصاب، ومع الوقت تتآكل الغضاريف ويصيب الكيس الزلالي ضمور يجعل الحركة بالمفصل محدودة.
وفي ذلك تأكيد بوجود علاقة تبادلية بين العوامل النفسية، والعوامل الصحية لمرضى الروماتويد. جعل الباحثة تقوم بإعداد برامج إرشادية ووقائية تساعد المعالجين النفسيين والمؤسسات العلاجية والتربوية والمستشفيات والمتخصصين على تقديم خدمات أكثر كفاءةً لمريضات الروماتويد.
حيث اعتمدت معنى للحياة مؤداه أن الحياة الحقيقية تتطلب وجود هدف يعيش الإنسان من أجله ويسعى لتحقيقه، مع تأكيدها أن الفرص والهدايا موجودة لدى كل فرد، وقد تكمن أحيانًا في أصعب الظروف، كما يؤكد واقع كثيرين من ذوي الإعاقات أصحاب الإرادة.
مشيرة إلى أن المرأة مريضة الروماتيد تعيش على كوكب الأرض، لديها مشكلات صحية جعلت إمكانياتها محدودة في العطاء، بينما لاتزال حياتها مكتظة بالمسؤوليات، وفي المقابل لديها احتياجات من الاهتمام والدعم والرعاية، وعليها أن تجد لنفسها موقفاً تستطيع من خلاله أن تفيد أفراد أسرتها مع محدودية إمكانياتها.
فإذا استغلت المعطيات التي بين يديها من بيت وزوج وأبناء (حياة اجتماعية موجودة بالفعل) واستطاعت أن تقوم بتوظيف الإمكانيات المتاحة لها سواء مادية أو بدنية أو عقلية لتقديم كل الدعم والتعاون لأفراد أسرتها، مع وعيها بحالتها الصحية وتقديم العطاء بشكل غير ضاغط عليها بدنياً أو نفسياً، مع عدم التفريط فى حقوقها المعنوية والمادية. فإن العلاقة بين هذه المرأة وجميع أفراد أسرتها سيسودها العطاء المتبادل مع الحب والسعادة.
وعن أسباب عدم التحقق الإنساني والنفسي والمجتمعي هذا بالنسبة لمريضات الروماتيد توصلت الباحثة "نهى محمد عبد الهادي" إلى عدم وجود ثقافة كافية في المجتمعات العربية بطبيعة المرض وآليات التعامل معه مما يصيب المرضى بحاله من اليأس من مجهول مظلم مرتبط بالعجز والإعاقة، فيتم العلاج الدوائي دون النظر إلى العلاج السيكولوجي.
وقالت: "إن بعض المعوقات التي تحول دون لجوء الأم المريضة للمساعدة النفسية تتمثل في عدم ظهور أعراض مرئية للاضطرابات النفسية مما يصعب عليها طلب العلاج، أو إقناع ذويها بما لديها معاناة نفسية. كما أن هناك إنكار عام في المجتمع للاضطرابات النفسية باعتبارها وصمة، وحتى لو بدأت المرأة العلاج، فإنها تجد صعوبة في المتابعة وتكملة العلاج لأسباب مادية خاصة بغلاء أسعار الكشف وكذلك أسعار الأدوية".
وهنا يبرز التقرب إلى الله والتعمق في المسائل الإيمانية كمعين للوصول إلى نتائج أفضل للصحة العقلية عند التعامل مع المرض بل والكوارث الطبيعية، العنف المنزلي، الطلاق.. الموت وما إلى غير ذلك.
وهذا ما توصل إليه بعض الباحثون فى دولة الإمارات العربية المتحدة خلال فترة انتشار فيروس (كوفيد 19) حيث أجريت بعض استطلاعات الرأي الاجتماعية والسيكولوجية حول المواجهة الدينية لأعراض الاكتئاب والقلق التي صاحبت انتشار الفيروس فكانت النتائج إيجابية تمامًا بالنسبة لمن تمسكوا بالروح الإيمانية والتوكل على الله.
وقد يفسر ذلك ما لاحظته الباحثة عند مقابلة الأمهات مريضات الروماتيد حيث جاء الارتياح التام للأمهات أثناء الاستجابة للبنود التي تخص استراتيجيات المواجهة الدينية.
كذلك تفاعل أغلبهن عند بند (أشعر بالدفء عندما يساعدني ابني في مهام حياتي) فالبعض قال بحماس (طبعاً)، والبعض الآخر ردد في حزن (للأسف لا يتعاونون معي)، في حين وجدت بعض الأمهات صعوبة في فهم بعض البنود مثل: (أعدل أهدافي لتناسب قيمي التي أعيش من أجلها). وجاء تكرار الإجابة بـ (لا طبعًا الحمد لله) عند ذكر العبارات الخاصة بالكحوليات والمخدرات للتغلب على الألم.
من هنا جاءت توصيات الدراسة التي حصلت بها "نهى محمد عبد الهادي" على درجة الماجستير بتقدير (ممتاز) موجهة إلى المحيط المقرب من مريضات الروماتويد بضرورة التعرف على أعراض المرض وتبعاته، وأهمية تقديم الدعم الاجتماعي وخاصة الأسري، مع ضرورة التفهم لضعف الأداء البدني لمريضة الروماتويد، ومدى ارتباط استقرار حالتها النفسية بحالتها الصحية، وذلك من خلال تحديد الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها لتقديم دعم نفسي للمريضات أمهات المراهقين والمتمثلة في عقد جلسات توعية ونقاش مع أسر المريضات لفهم احتياجاتهن، تشجيع التعاون بين الفرق الطبية والاجتماعية والنفسية لتطوير برامج شاملة لدعم مريضات الروماتويد، توجيه البحث لتطوير أدوات وبرامج عملية يمكن تطبيقها في المجتمع لتعزيز الصحة النفسية والجودة الحياتية للمريضات.
توجيه النتائج والتوصيات للسياسيين وصناع القرار لتشجيع اتخاذ إجراءات تحسين الرعاية الصحية والدعم النفسي لمريضات الروماتويد أمهات المراهقين.
مسارات مختلفة، عطاءات متناثرة، سعادة مرتقبة وتعاسة محتملة .. هكذا تبقى المحن في حياة المرأة -بفعل وجود أبنائها- منح لصياغة مفهوم السعادة بأدوات جديدة.
التعليقات