جائزة المؤسسات الصديقة لكبار السن الأولى من نوعها عربياً ومحلياً
العدد 162 - 2025
أن تستبيح كرامة وحرية ورغبات الغير فتوجهه كيفما تشاء ضارباً بعرض الحائط مدى استيعابه للأمور وقدراته النفسية فكأنما استبحت نفسه ودمه، أن تعمل على تشويه هويته النفسية وقناعاته الفكرية بدعوى الإصلاح كشرط لقبوله والاعتراف بوجوده مستخدماً وسائل التواصل الحديثة أو حتى التقليدية فكأنما استبحت أحلامه وآماله، أن تقبله كصورة مشوهة للأصل، فأنت تقبل نفسك في صورته، بينما يظل يؤرقك ذلك الجزء منه الذي رفض أن يغادر صاحبه مهما كان ضعيفاً.. مغلوباً على أمره.
ذلك هو العنف.. وهكذا نضع نبتته الأولى في العالم الإفتراضى أو على أرض الواقع، ثم نتعجب من أننا نعاني منه، بل ونتبرأ من كوننا أحد أسبابه ودواعيه، خاصة مع غياب أدواته المعهودة كالعصا أو السلاح، وننسى دائماً أو نتجاهل أن العنف الممارس من قبلنا جميعاً ليس مادياً، بل معنوي، وهو الأخطر والأهم والأعمق أثراً.
وهو ما استنهض عزيمة بعض الدول العربية ومنها المغرب، اليمن، عدن، تونس، العراق والأردن للمشاركة في المؤتمر الذي ترأسته مصر في شهر مايو الماضي وأقامته منظمة المرأة العربية بالتعاون مع المجلس القومي للمرأة المصرية تحت عنوان "التواصل والتمكين والحماية للنساء والفتيات من العنف السيبراني والعنف الناتج عن وسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي".
جاءت محاوره وجلساته تحمل رؤى وأفكار أعضاء الوفود المشاركة من أهل الفكر والقانون والتكنولوجيا، بل والأدب والفن رجالاً ونساء. وعليه لا نستطيع أن نجزم أن العنف الذي تعاني منه المرأة في مجتمع ما لا يعانيه الرجل، وبالضرورة الأبناء؛ فالمعاناة واحدة في نوعها، لكنها مختلفة في شكلها وطبيعتها، إلا أن العنف الموجه ضد المرأة هو ذلك النوع المبرر دائماً والمباح أحياناً؛ ذلك لأن المساواة داخل الأسرة أو خارجها قد فقدت مرجعيتها الدينية بل والإنسانية خاصة في ظل تلك الأفكار المتطرفة التي قد اختلطت فيها المبادئ الإسلامية الصحيحة بالعادات والتقاليد المتعصبة.
وبسبب بعض عوامل التنشئة الاجتماعية، قد تبدو أحياناً صورة المرأة لدى نفسها خافتة ومتوارية وبعيدة عن السيطرة على مقدراتها، حتى الأشكال الثقافية ذاتها قد تتضمن قيماً ومعاني وقصصاً وحكايات وأشعاراً وأمثالاً تحط من قيمة المرأة وما ينتج عن ذلك من مفاهيم وصور وقوالب تحدد سلفاً صورة المرأة في الحياة وتخلق نوعاً من السلوكيات التي تضر بمشاعرها وتقلل من مكانتها وتضعف قدراتها، وبالتالي تسلبها إرادتها، ومنها مثلاً تزويج القاصرات ومنعهن من استكمال تعليمهن، وهي عادات مازالت قائمة وبقوة في بعض البلدان العربية.. إلى الإهانة التي تشعر بها أثناء قيادة السيارة عندما يضايقها أو يتضايق منها الرجال على اعتبار أنها تزاحمهم عن جهل هو المتسبب في ظنهم بالطبع في تعطيل حركة المرور، مروراً بعدم الثقة في كفاءاتهن في كافة المجالات وعلى كافة الأصعدة رغم حصولهن على مؤهلات تثبت عكس ذلك.
والمثير للدهشة والتأمل أن الوضع بصورته تلك والتي كثيراً ما نجزم أنه يخص الماضي البعيد تأكيداً على أن وضع المرأة ووضعيتها الآن قد تجاوز كل ذلك، وأن المواطنة كمبدأ يقر المساواة التامة بين الرجال والنساء قد خرج من بين أروقة المؤتمرات والندوات إلى حيز الواقع وبات كافياً أن نقول "إنسان" لنعنيهما معاً، إلا أن هذا الوضع ما زال يتناقض كلياً مع الكثير من مواد قانون الأحوال الشخصية، والمعمول به في دولة كمصر على سبيل المثال خاصة المتعلقة بالولاية والقوامة والوصاية وحقوق الزواج والطلاق، وحق الزوجة في الإقامة والسفر دون وصاية، كما أن القاضية التي هي ولية من لا ولي له لا يحق لها الولاية على نفسها أو الوصاية على أولادها، وكذلك يتناقض هذا المبدأ مع بعض مواد قانون العقوبات المجحفة في جرائم الشرف وإسقاط العقوبة عن المغتصب، وكلها ممارسات تدعم العنف ضد المرأة.. ثم ومع الوقت تتحول هي نفسها لأيقونة لنشر هذا العنف داخل الأسرة وخارجها.
وعلى الرغم من تباهي بعض الدول بقلة عدد حالات العنف الجسدي المسجلة ضد المرأة في مجتمعاتها، إلا أن ذلك لا يعني عدم تعرض المرأة فيها للعنف لأن معاناة المرأة واحدة في كل أنحاء العالم، وأن مفهوم العنف مهما تنوع فهو واحد من حيث الجذور رغم تعدد أسبابه، إلا أن ما يعد عنفاً في مجتمع قد لا يعد كذلك في مجتمع آخر، فالعنف كسلوك يخضع للمفاهيم الاجتماعية والثقافية التي تميز مجتمعاً عن آخر إلى الحد الذي قد لا تكون المرأة معه واعية بتعرضها للعنف أو بكونها طرفاً ليس في الدفاع عن حقوقها وإنما في هضم تلك الحقوق.
والغريب أنه ليس هناك سمات خاصة حددتها البحوث الأكاديمية أو الدراسات الميدانية لطبيعة الأسر، وبالتالي المجتمعات، التي تزداد معدلات العنف بين أفرادها؛ وذلك لأن العنف الأسري يحدث على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية بل -ومع الأسف- الثقافية، فكلما بدأ الزواج في التداعي والانهيار كانت الزوجة أول من يتعرض للعنف والإيذاء، حيث مازالت مشكلة ضرب الأزواج للزوجات مطروحة على أنها ذلك النوع من العنف المقبول اجتماعياً في بعض الثقافات والدليل على ذلك أن معظم قضايا قتل الأزواج للزوجات يسجل على أنه ضرب أفضى إلى الموت خاصة في حالة عدم استخدام السلاح، كما أن بعض الزوجات فقط يهجرن البيوت بسبب ضرب الأزواج لهن بينما يكتفي البعض الآخر بالبحث عن العون والمساعدة من الآخرين.
وعلى الرغم من أن التعامل مع الأبناء من قبل الزوجين خضع بدوره إلى أيديولوجية جديدة مؤداها أن هؤلاء الأطفال لهم قيمة كبيرة ويحققون إشباعاً عاطفياً لآبائهم، وسعى الآباء إلى تحقيق أعلى مستويات الرعاية الاقتصادية والنفسية والاجتماعية لهم، إلا أن هذا الاهتمام لم يشمل تجنب مشاهدة الأطفال للعنف الأسري سواء نحو الزوجة أو الزوج والذي يدركون معه أن ضرب الآخرين -الذين نحبهم وعلى علاقة حميمة بهم- أمر مشروع وفعال وقد يؤدي ذلك إلى ممارستهم العنف مع الزوجة أو الشريكة كما قد يؤدي إلى ممارستهم العنف مع آبائهم الكبار.
حدث ويحدث وربما امتد أجيالاً وأجيال مع اختلاف بل وتطور أشكال العنف وأدواته، ومن هنا جاء إعلان القاهرة الذي ألقته المستشارة أمل عمار رئيس المجلس القومي للمرأة في الجلسة الختامية للمؤتمر حيث أكد المشاركون أهمية بلورة رؤية عربية موحدة في مواجهة العنف وضمان بيئة رقمية آمنة للنساء والفتيات، وكذلك العمل على ضرورة إدراج التربية الرقمية والتثقيف القانوني في المناهج التعليمية لتعزيز الوعى الرقمي كخطوة في محاربة العنف كفكر وسلوك لاسيما لدى الفتيات، وتمكينهن من الاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا، مع تشجيع الحكومات على تبني حملات توعوية عامة تستهدف التنبيه والتعريف بمخاطر العنف وخاصة السيبراني وسبل مواجهته، مع التأكيد على دعوة الشركات والمنصات الرقمية على تحمل مسؤولياتها تجاه حماية النساء والفتيات من العنف عبر اعتماد وتطبيق سياسات تتسم بالشفافية والإتاحة.
ولم يخلُ الإعلان من تأكيد المشاركين على دعم ومساندة المرأة الفلسطينية الصامدة في مواجهة كل أشكال العنف الناتجة عن الاحتلال لقطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية.
إنها تلك القيمة الحضارية والإنسانية والأخلاقية التي لا بد من بلوغها إذا كنا نعي معنى أن تكون إنساناً، فلابد من مناهضة العنف سواء كان ضد الرجل أو المرأة أو الطفل أو الشيخ أو حتى الممتلكات، وذلك بقبول الآخر، بمعنى احترام رغباته وآرائه ومشاعره مع عدم إجباره على أي شيء، مادياً كان أو معنوياً، وعدم تكليفه بما ليس من شأنه القيام به، أو إجباره على التنازل عن أي من حقوقه المعنوية أو المادية كخطوة في الطريق لبلوغ التحقق المنجز والوجود الآمن والاستقرار الدائم.
التعليقات