أثر الألوان في النفس
العدد 160 - 2024
في كندا، تعد قضية انتهاكات حقوق السكان الأصليين من أبرز القضايا التاريخية التي تعكس فصلاً مظلماً من تاريخ البلاد، بين الماضي القاسي والحاضر الذي يسعى نحو التصحيح، تشكل مأساة المدارس السكنية مثالاً صارخاً على الظلم الذي تعرض له السكان الأصليون، حيث تم نزع هويتهم وثقافتهم، ما ترك آثاراً عميقة لا تزال حاضرة حتى اليوم. في هذه المقالة، سنستعرض التاريخ، الآثار، وجهود الاعتراف، إضافة إلى التحديات المستمرة.
قبل وصول الأوروبيين إلى الأراضي الكندية، كانت القبائل الأصلية تعيش حياة مزدهرة، تشمل ثقافاتها وتقاليدها الخاصة، وكانوا يتمتعون بنظم اجتماعية وسياسية ودينية معقدة ومتوازنة. ضمت هذه القبائل الأمم الأولى، الإنويت، والميتيس، الذين حافظوا على علاقات قوية مع البيئة ومواردها، وعندما وصل الأوروبيون في القرن السادس عشر، بدأت العلاقات بالتوتر بسبب رغبتهم في السيطرة على الأراضي واستغلال الموارد الطبيعية، ورافق ذلك انتشار أمراض جديدة مثل الجدري والحصبة، مما أدى إلى وفاة أعداد كبيرة من السكان الأصليين، إذ لم تكن لديهم مناعة ضد هذه الأمراض.
مع تزايد الهجرة الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت السلطات البريطانية والكندية تتبنى سياسات تهدف إلى "تمدين" السكان الأصليين وتحويلهم ليتوافقوا مع القيم الأوروبية، وبدأت الأراضي تُنتزع من السكان الأصليين وبدأت مواردهم تُستغل بشكل مفرط، ما أدى إلى تراجع حاد في أعداد السكان الأصليين وتدهور أحوالهم.
حيث كانت هذه السياسات تهدف إلى فرض الثقافة الغربية عليهم من خلال عمليات الاستيعاب، وإحدى الأدوات البارزة في تنفيذ هذه السياسات كانت المدارس السكنية، حيث تم إجبار الأطفال الأصليين على ترك عائلاتهم ودخول نظام تعليمي يهدف إلى محو هويتهم الأصلية وإدماجهم في المجتمع الكندي الأبيض.
وفي عام 1876، سنّت الحكومة الكندية قانون "الأمم الأولى" الذي منحها سيطرة كاملة على شؤون السكان الأصليين، وهو قانون أدى إلى خرق واضح لحقوقهم الإنسانية، حيث قامت الحكومة بإنشاء أكثر من 130 مدرسة سكنية في شتى أنحاء البلاد بالتعاون مع الكنائس. كانت هذه المدارس تهدف ظاهرياً إلى تمدين الأطفال الأصليين، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً. أجبر الأطفال على العيش بعيداً عن عائلاتهم وأُرغموا على عدم التحدث بلغتهم الأصلية أو ممارسة تقاليدهم، وتعرض العديد منهم لسوء المعاملة الجسدية والنفسية، وحتى للعنف الجنسي، إضافةً إلى تعرضهم للأمراض وسوء التغذية بسبب الظروف المعيشية السيئة. تفاقمت المشكلات الصحية والنفسية، حيث أشارت تقارير لاحقة إلى أن آلاف الأطفال فقدوا حياتهم في هذه المدارس، وغالباً ما كانت تُدفن جثثهم في مقابر غير مسجلة أو معلمة.
استمر نظام المدارس السكنية لأكثر من مئة عام، حيث أغلقت آخر مدرسة عام 1996، لكن آثار هذا النظام لم تنتهِ، فقد ترك صدمة جماعية بين السكان الأصليين، حيث توفي الآلاف من الأطفال نتيجة لسوء التغذية، والإهمال، وسوء المعاملة، بالإضافة إلى ظروف المعيشة السيئة.
لم تقتصر آثار المدارس السكنية على الأطفال الذين عاشوا فيها، بل امتدت إلى الأجيال اللاحقة، حيث عانى العديد من الناجين من صدمات نفسية عميقة أثرت في حياتهم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وتسببت في مشكلات نفسية مثل الإدمان، والعنف الأسري، والانتحار. ونتيجة لذلك، تُعرف هذه الظاهرة بـ "التأثير بين الأجيال"، حيث تنتقل صدمات الماضي عبر الأجيال لتؤثر على أحفاد الناجين وأبنائهم، وتشكل صراعاً نفسياً واجتماعياً يصعب تجاوزه بسهولة.
خروج الأطفال من المدارس السكنية بعد سنوات طويلة من الانفصال عن أسرهم وثقافتهم، أدى إلى صدمات نفسية عميقة، حيث عانى الناجون من صعوبات في إعادة التكيف مع أسرهم ومجتمعاتهم، والأطفال الذين نشأوا في بيئة عنف وعانوا من انتهاكات، واجهوا صعوبات في تكوين عائلات مستقرة، وعلى مدار السنوات، انتقلت هذه الصدمات إلى الأبناء والأحفاد، حيث يعاني العديد منهم اليوم من مشكلات نفسية واضطرابات عاطفية ناتجة عن تداعيات السياسات القديمة.
بدأ الاعتراف الرسمي بالجرائم التي ارتكبت في المدارس السكنية في العقدين الأخيرين، ففي عام 2008، قدم رئيس الوزراء ستيفن هاربر اعتذاراً رسمياً للسكان الأصليين عن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة في إطار هذه المدارس. بعد ذلك، تأسست "لجنة الحقيقة والمصالحة" في كندا لجمع شهادات الناجين وتوثيق الفظائع التي حدثت، وقد خلصت اللجنة إلى أن ما تعرض له السكان الأصليون كان شكلاً من أشكال الإبادة الثقافية.
في عام 2015، نشرت لجنة الحقيقة والمصالحة تقريرها النهائي الذي صنف ما حدث على أنه "إبادة ثقافية"، وأصدرت 94 توصية لمعالجة آثار هذه السياسات. شملت التوصيات تحسين الرعاية الصحية والتعليم للسكان الأصليين، وإجراء إصلاحات قانونية لضمان حقوقهم، إضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بتاريخ السكان الأصليين في المدارس شملت هذه التوصيات مجالات عدة مثل التعليم، والصحة، والعدالة، بهدف خلق مجتمع أكثر عدلاً وشمولاً. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته كندا في تطبيق بعض هذه التوصيات، إلا أن العديد من التوصيات لم تُنفذ بعد بشكل كامل، حيث تواجه الحكومة تحديات وعوائق في تحقيق العدالة للضحايا.
في السنوات الأخيرة، أُعيد فتح جراح الماضي مع اكتشاف مئات المقابر غير المعلمة حول مواقع المدارس السكنية السابقة، حيث تم العثور على بقايا أطفال يُعتقد أنهم من ضحايا النظام. هذه الاكتشافات أثارت صدمة واسعة في كندا وجذبت الاهتمام المحلي والدولي من جديد إلى قضية المدارس السكنية، ما دفع الكثيرين إلى الدعوة إلى تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم.
رغم الجهود المبذولة لمعالجة تداعيات الماضي، لا يزال السكان الأصليون يواجهون تحديات كبرى، حيث يعاني العديد منهم من الفقر والبطالة ومشاكل الصحة العقلية. إلى جانب ذلك، يعانون من تمييز وعنصرية داخل المجتمع الكندي، حيث تشكل هذه القضايا حاجزاً أمام تحقيق العدالة الاجتماعية والتكافؤ.
إن تحقيق العدالة للسكان الأصليين يتطلب التزاماً طويل الأمد من الحكومة والمجتمع، حيث يجب توفير الدعم النفسي والاجتماعي للناجين وعائلاتهم، إلى جانب تحسين فرص التعليم والرعاية الصحية في مجتمعات السكان الأصليين. لا بد من تنفيذ توصيات لجنة الحقيقة والمصالحة بشكل كامل لضمان تحقيق تغيير فعلي.
إن قضية المدارس السكنية في كندا تجسد معاناة طويلة عاشها السكان الأصليون وما زالت تلقي بظلالها على واقعهم اليوم. ورغم أن كندا قد اتخذت خطوات إيجابية للاعتراف بهذه الجرائم والعمل على معالجتها، إلا أن الطريق لا يزال طويلاً لتحقيق العدالة الحقيقية، ولا زال الكنديون في كل سنة يستنكرون ما حدث في القرون الماضية للأطفال من أبناء السكان الأصليين.
التعليقات