الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم

الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم
الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم

بيوت شيدت وسعادة رفرفرت وأبناء ترعرعوا آمنين وسط أبوين لا يعرفون عن علم العلاقات إلا ما حباهم به الله من فطرة، فطرة حب كلاهما للآخر وهو ليس من جنسه أو من مستواه الاقتصادى، وربما ليس من البيئة الإجتماعية ذاتها، بل وأحيانا يصل الإختلاف إلى العرق، ذلك حين كان نجاح العلاقة هدف، وكانت الإرادة حديدية، والحب نبعٌ من فيض الذات والزواج اختيار، والسعادة إصرار، والتمسك بالرأى قيمة والمزايدة على الحق مرفوضة وقبول الآخر فضيلة.

كان هذا هو حال الأسرة العربية حتى ثمانينات القرن الماضي، رحلة معهودة لقصص حب أو اتفاق بين طرفين على حلم بناء أسرة، قد ينتابها بعض من عمليات التباديل والتوافيق، لكن في إطار الحفاظ على الكيان، بل على النفس والحلم.

ولأسباب حقيقية أو اعتبارية وبخطوات متدرجة سريعة استفاقت المجتمعات العربية على شبح التعاسة وقد دب في أواصر العلاقة، وعرف التفكك طريقه إلى أفراد الأسرة الواحدة.

ارتفعت نسب الطلاق وعرفت المجتمعات الزواج الصامت والطلاق مع إيقاف التنفيذ كمحاولات لانقاذ الفكرة.

وبات الزواج هو التجسيد الحقيقى لمعنى الإزدواجية .. ما نقوله ونتمناه غير ما نسعى إليه ونعيشه.

الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم
محمد حسين

حفل زواج فاخر يحمل السبق في تفاصيل لم يسبق العروسين أحد إليها، وأبوين يستنفذا كل طاقاتهما النفسية والمادية في اتمام العرس.. وكأنه الفرحة الوحيدة في الزواج، بعده يتواجه الزوجان في محاولات بائسة لفك طلاسم شخصية كل منهما، فلا تفاهم ولا اتفاق على هدف، أو حتى على توظيف الوسائل المتاحة، الجميع يحاول من أجل إطالة مدة الزواج. لكن لا أحد يراجع فكرته عن الزواج أو توقيته.

حتى أن العامين الأخيرين واللذين شهدا طفرة في أسعار كل شيء في مصر من أغذية ومأكولات إلى تكلفة إقامة الحفلات مروراً بأسعار الأدوية والسيارات والملابس لم يشهدا أي تغيير ملحوظ فى أعداد الساعين إلى الدخول في علاقة الزواج أو حتى الساعين إلى الخروج من نفقه بعد معاناة طالت أم قصرت.

وذلك ما كشفته أرقام الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، وعند غياب الوعى بالذات إلى هذا الحد أصبحت الأرض ممهدة لأفكار مستوردة تحث كل طرف على الاستقواء على الآخر بدعوة الحفاظ على الحقوق، ولم تعد المرأة وحدها هى الكائن الضعيف فى العلاقة أو الخاسر الأكبر بانهائها، بل عرفت مجتمعاتنا حالات لأزواج شردوا وسجنوا تحت وطأة الانتقام.

والقوانين التي وضعت للحفاظ على الكيان الأسري لم تعد كافية فى ظل طرفي علاقة يجهلانها أو لا يستطيعا استخدامها وسط تقاليد حاكمة لكل مجتمع، حتى أن صعيد مصر لم يشهد حالة خلع واحدة لما يعتبرونه هناك من فضيحة تنبذها العادات والتقاليد.

مع كل هذا التخبط أصبح الزواج هو المشروع الوحيد الذي يمنح غير الموفقين فى بلوغ أهدافهم الفرصة لأن يقدموا النصح لغيرهم. ذلك من خلال كيانات إعلامية وإلكترونية خاصة على يد من يطلقون على أنفسهم أخصائيوا علاقات أسرية.

وتحول الزواج على أيديهم إلى حلبة صراع، اختفت من منظومته التنازلات الإنسانية المحمودة، وتجاهل طرفاه فكرة أن ليس كل تنازل ضعف وإنما يمثل فى بعضه قوة وخبرة ورغبة في النجاح والاستقرار دون المساس بالكرامة وما شابهها.

فهل أصبح الطلاق على يد هؤلاء مرحلة طبيعية من مراحل الزواج؟
ولماذا فتحت البرامج التليفزيونية والإذاعية المجال لغير المتخصصين بالخوض فى الموضوعات الإجتماعية على وجه أخص؟!

بل ومن المسؤول عن انتشار نوع ثالث من العلاقات وهو الصداقة بين المطلقين الذين باتوا يقصون على بعضهم البعض أخبار علاقاتهم الجديدة دون حياء، بل وصل الأمر أن نجد الزوجة وطليقها وصديقها أو زوج المستقبل في لقاء واحد يشمله التحابي، بل والتندر بين زوج سابق وزوج حالي لنفس الزوجة بأن يقول الأول للثاني (الله يكون فى عونك) ويرد الثاني على الأول (أنت فلت).

وكيف فشل الزوجين كصديقين داخل العلاقة ونجحت صداقتهما خارجها؟

حول ذلك كان اللقاء مع دكتورة هدى زكريا أستاذ علم الإجتماع السياسي فى جامعات مصر والتي أكدت على أن أحاديث جلسات الأصدقاء في النوادي، وكلام الأهل فى البيوت قد تحولت من أحاديث خاصة تعبر عن مرجعية أصحابها الفكرية والاجتماعية والقيمية الإنسانية إلى نصائح للعامة عبر قنوات التواصل العديدة المتاحة، ذلك حين وجد كل صاحب تجربة -بصرف النظر عن نجاحها من عدمه- فى نفسه مرشداً اجتماعياً مؤهلاً لتقديم النصح.

وتقول: حدث ذلك -مع الأسف- فى وقت شديد الخصوصية تعيش فيه أزمة الزواج انتكاسة حقيقية، ذلك حيث خرجت من دائرة اهتمام المراكز البحثية المعتمدة وأقسام الصحة النفسية بالجامعات إلى ضلالات الكيانات الخاصة، والتي أصبح الزواج في ظلها بلا راع مخلص بل رعاة متنافسون يسعون إلى التربح من ورائه على حساب أي هدف آخر.

الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم
هدى زكريا

وتضيف دكتورة هدى: نستطيع القول أن الذي ساعد في ذلك هو ضعف الدوافع الاجتماعية التي كانت تحمي الزواج كفكرة أصيلة وككيان اجتماعى ضامن لاستقرار وسعادة مجتمعاتنا العربية، والذي كان يحدث تحت رعاية أهل العروسين الذين ضلوا الطرق حين أخذهم العبث بمقدرات العلاقة في ظل تأمين مادي ومهور عالية تجعل الشاب مطالب بتأمين كماليات شكلية، بل وتحول الاستغناء عن أي من هذه الكماليات كما عهدناه في السابق كدليل لنضج العروسين وتحفيزهم على فهم المغزى الحقيقي للزواج، إلى أسباب من شأنها أن تؤدي إلى الاحتقار والدونية.

لقد ترتب على ذلك أن ظهرت فى الأوساط الاجتماعية غير المتعلمة ظاهرة الغريمات وقابلها في الأوساط الأكثر استقراراً نسبياً ظاهرة التباهي والتفاخر والمعايرة.

لتقف الفروق عاجزة بين المتعلمين وغير المتعلمين، فالجميع يبدأ حياته الجديدة وقد كبل بقدر من الأقساط المالية والديون كفيلة بأن تصبح هي شاغلهم الأهم وربما الأوحد، وبالتدريج تنسحب فكرة الاستقرار الأسري لتحل محلها فكرة الاستقرار المادي، ويبدأ العروسان يلهثان من أجل تحقيقه.

وتقول: بالطبع في مثل هذه الضغوط يفشل الزوجين الحديثين في تحقيق التوافق النفسي والشخصي بل والجسدي وهي اشكاليات الزواج الحقيقية. وبظهور بعض الخلافات يلجأ الطرفين إلى الأهل الذين يحاول كل منهم إسقاط تجربته وما أخفق فى تحقيقه وما كان يتمناه لنفسه على التجربة البكر التي تريد أن تعيش وتستمر، فالجميع يتناول إشكالية الزواج بطريقة موحية بل ومؤدية إلى الطلاق، فى حين يتعاملون مع استمرار الزواج على أنه الاستثناء، وبالتالي مع السعادة في الزواج على أنها من النوادر.

الدراسات والأبحاث

ظهرت في أمريكا وأوروبا دراسات مثل (لماذا كل هذا الطلاق؟) والتي توصلت إلى أن كل زواج هو منتهي بالضرورة وعليه فالطلاق مرحلة طبيعية من مراحل الزواج.. على الرغم من أننا نعيش ذلك ونعاني تبعاته إلا أننا لا نخضعه للبحث العلمي على هذا النحو، فهل كان الغرب أكثر واقعية فى اعتباراته تلك؟!

تقول د.هدى زكريا: بالطبع هناك جرأة فى الدراسات البحثية فى أوروبا وأمريكا، وهى دراسات محفزة على إنقاذ الزواج، حيث بدأ الانتباه إلى المشاكل المترتبة على سقوط مؤسسة الزواج والتي من أهمها تجميد العلاقات. هذا الصدق في تحديد المشكلات يعتبرونه فى المجتمعات العربية شكلاً من أشكال التحريض على إنهاء علاقة الزواج.

ليبقى المتخصصون من أساتذة علم النفس والإجتماع والفلسفة بأبحاثهم العلمية ودراساتهم الإحصائية وتوصيات تحليلاتهم وعمق إدراكهم خارج دائرة اهتمام العروس، والزوجين، والإعلاميون.

كل هذا جعل المجال متسعاً لأولئك الذين يلقبون أنفسهم استشاري علاقات ولا أحد يعلم من أين أتوا بشهاداتهم تلك، ولا مِن مَن تعلموا، ولا على أي أسس غربية أم عربية. حتى يدلوا بنصائحهم فى مجتمعات عربية إسلامية.

حلول جذرية

(الزواج العربى أصبح على ورقة طلاق) .. كارثة إجتماعية وإنسانية قيمية بل ودينية شرعية أشارت إليها دكتورة هدى زكريا .. فما مدى اتفاق دكتور محمد حسين أبو العلا الكاتب وأستاذ علم الإجتماع السياسى حولها؟ يقول:

إذا كان الزواج هو السبب الوحيد للطلاق، وكان الزواج ضرورة، حياتية فالطلاق ليس نتيجة حتمية، وبالتالي فهو ليس مرحلة طبيعية وإلا كان كل المتزوجين سعووا إليه وأنجزوه.

وإذا كان الحب سبباً قوياً للزواج فليس كل طلاق سببه اشتعال الكراهية إنما استحالة التفاهم التي تعد من أهم أسبابه حتى لو لم تنطفىء شعلة الحب.

ويضيف د.أبو العلا: (أنا لا أميل بالطبع إلى الأخذ بنصائح المتدربين الذين انتشروا بشكل مرعب على وسائل التواصل الإجتماعى لأنهم لا يملكون ثقلاً علمياً يمكنهم من الوصول لحلول جذرية في المشكلات الإجتماعية فضلاً عن أنهم إما متعصبون للرجل أو للمرأة. وآفة التعصب لا يأتي من ورائها فصلا في قضية أو رأي رغم كونها مشكلات على درجة من الحساسية وتحتاج للتعامل بذكاء وفطنة وخبرة ودراسة وتجربة.

العمر هو الثمن

وعن اعتبار الطلاق مرحلة انتقالية بين علاقة فاشلة وأخرى ترجو النجاح قال د.محمد حسين: أرى أن إقامة علاقة جديدة على أشلاء أسرار وخفايا ودقائق حياتية معاشة هو شكل من أشكال تشهير وتعريض كل طرف بالآخر، ليخلق من نفسه قديساً أو ضحية لعلاقة يريد أن يتطهر منها. يحدث هذا تحت سطوة الوهم النابع من جذور الفشل فى استمرار الزواج الأول وسطوة الإيحاء الذاتي بضرورة خوض تجربة جديدة لكن للأسف بنفس الآليات الشخصية القديمة التي كانت سبباً حيوياً فى الفشل، وبالتالي يكون الإنفصال ثانية ويكون اليأس والاحباط هما رواد المسيرة، أما العمر فهو الثمن.

السعادة الزوجية
الأسرة العربية .. بين الأمس واليوم
د. سامية خضر

أما الدكتورة سامية خضر صالح أستاذ علم الاجتماع بكلية التربية جامعة عين شمس فجاء حديثها مؤكداً على أهمية التنشئة الاجتماعية للشاب والفتاة تلك التي يتكون على أساسها فكرتهما عن طبيعة الزواج وأهمية الاستمرار فيه، بل ودرجة تمسك كل منهما بحقه في السعادة، وذلك عن طريق -كما قالت- اهتمام الدول بالأفراد والجماعات ليس على مستوى تأمين الحياة المادية فقط وإنما بالتركيز على الاهتمام بمنظومة القيم التي تنتج فكراً يحمي العلاقة الزوجية.

وعن أدوات ذلك قالت: غرس فكرة التعاون بين أفراد الأسرة الواحدة والذي كان من أولويات المناهج التعليمية والبرامج الإذاعية والتلفزيونية بل والأعمال الدرامية والتي كان جميعها يقدم صورة مثالية للأسرة العربية، وعلى سبيل المثال تذكر درس المطالعة (كلنا يعمل) والذى كان يدرس فى المراحل الإبتدائية داعماً لفكرة المشاركة، وتذكر أيضا برنامج إلى ربات البيوت والتي ظلت الإذاعة المصرية تقدمه على مدى أكثر من 30 عاما وتخص بالذكر الإذاعية المصرية أو أم الإذاعيين المصريين "صفية المهندس" والتي كانت تقدم نصائح إنسانية قابلة للتطبيق غير خيالية أو مثالية وإنما موضوعية تعي طبيعة الإنسان ودوافعه الحياتية وسماته النفسية، وكذلك برامج الأطفال مثل برامج الإذاعيين المصريين "بابا شار" و "ماما سميحة"، ومن الأعمال الدرامية تذكر فيلم (مراتي مدير عام) للنجمين المصريين "شادية" و"صلاح ذو الفقار" وكيف كان لهذا العمل الفضل فى تغيير مسار حياتها حيث أعدتها والدتها على الاكتفاء بشهادة الليسانس والتفرغ للزوج ولتربية الأبناء إلى أن إذاعة هذا الفيلم فى ذلك الوقت أوجد بداخلها الرغبة على استكمال مسيرتها العلمية والتى
حظيت فيها بالأستاذية فى مجال علم الاجتماع مع الاحتفاظ لنفسها بإقامة علاقة أسرية ناجحة يشملها الحب والتعاون، ولأنوثتها بالشياكة والرقي.
وتذكر أيضا قراءاتها للكاتبات المصريات الشهيرات فى ذلك الوقت من أمثال "أمينة السعيد"، و"سهير القلماوي" و"سعاد حلمي"، وما أسفرت عنه تجاربهن في معركة إثبات الوجود من وجود فعال واحترام وتقدير كان حافزاً لبنات جيلها.

وعلى النقيض تذكر خطورة تلك البرامج الصراعية التى تضع قطبي الحياة -الرجل والمرأة-على حافة خيارات مستحيلة بين الأنا والآخر مثل (الستات ميعرفوش يكذبوا) وكذلك الإعلانات التسويقية لمخرفين فى دعم العلاقات وجلب الحبيب و زواج الفتيات وغيرها مما يمثل خطورة فادحة فى مجتمعات تمثل فيها الأمية نسب عالية جداً، وكذلك في ظل اختفاء عادة القراءة بين المتعلمين.

وأخيرا تؤكد على فكرة أن الزواج علاقة تفاعلية قائمة على المشاركة وليس المبارزة، وهو ما ترجو تعميمه.

التعليقات

فيديو العدد