الحاسة السادسة .. بين الفطرة والخيال

الحاسة السادسة .. بين الفطرة والخيال
الحاسة السادسة .. بين الفطرة والخيال

خلق الله تعالى الإنسان مكرّمًا، مزوّدًا بحواس ظاهرة تساعده على فهم العالم والتفاعل معه، وهي: البصر، السمع، الشم، التذوق، واللمس. ولكن الإنسان لم يتوقف عند ما تراه العين وتسمعه الأذن، بل لاحظ عبر الأزمان وجود إشارات داخلية، إحساس خفي، شعور غير مبرر، كأنه تنبيه أو إدراك يسبق الحدث. هذا ما يُعرف عند العامة باسم الحاسة السادسة.

فما حقيقة هذه الحاسة؟ وهل هي علم أم خرافة؟ وهل توجد أدلة شرعية تدعمها؟ وهل ما يسمى بـالتخاطر جزء منها؟ في هذا المقال نستعرض النظرة العلمية والإسلامية والفلسفية لهذه المسألة.

ما المقصود بالحاسة السادسة؟

مصطلح "الحاسة السادسة" لا يُقصد به حاسة بيولوجية محددة كالحواس الخمس المعروفة، بل يُستخدم للدلالة على قدرة غير مادية أو فطرية لدى بعض الأشخاص، تجعلهم يشعرون أو يدركون شيئًا قبل أن يحدث، أو دون استخدام وسائل الاتصال المعروفة.

من مظاهر الحاسة السادسة

الإحساس بخطر وشيك دون سبب ظاهر، معرفة أن شخصًا ما في ضيق أو ألم، توقع حدوث أمر مستقبلي، الشعور بأن شخصًا ما سينطق بشيء ما، ثم يحدث.

هذه القدرات تُسمى في علم النفس بـ الإدراك الفائق للحواس، وتشمل عدة أشكال مثل التخاطر، الاستبصار، الإحساس المسبق.

ما هو التخاطر؟

التخاطر هو نوع من أنواع الإدراك الفائق، ويُقصد به انتقال الأفكار أو المشاعر من عقل شخص إلى عقل شخص آخر دون استخدام الحواس أو الوسائط المادية

مثال شهير: أم تستيقظ فجأة وهي تشعر أن ابنها الذي يعيش في بلد آخر أصابه مكروه، ثم تكتشف لاحقًا أنه فعلاً تعرض لحادث في نفس اللحظة. يفسّر بعض العلماء ذلك بوجود صلة نفسية أو عاطفية عميقة تُسهّل انتقال المشاعر بين المحبين

لكن التجارب العلمية حول التخاطر ما زالت محط جدل، فالنتائج غالبًا غير قابلة للتكرار العلمي، مما يجعل قبولها في الوسط الأكاديمي محل شك.

الرأي العلمي: علم أم وهم؟

يرى بعض الباحثين في علم النفس أن الحاسة السادسة ليست سوى عمليات ذهنية معقدة وغير واعية، حيث يُحلل الدماغ المعطيات دون أن يشعر الشخص بذلك. فمثلًا، قد "يتنبأ" شخص بحدوث شيء لأنه رأى مؤشرات صغيرة لم يلاحظها عقله الواعي.

ويقول آخرون إن هناك فراسة فطرية عند بعض الناس، يستطيعون بها قراءة الوجوه أو رصد المشاعر.

هذه النظرة العلمية لا تُعارض الدين، بل تكمّله. فالفراسة أو الحدس يُمكن أن يكون له تفسير طبيعي، لكن لا يجوز أن يُنسب للغيب أو يُستخدم لتضليل الناس.

العلم الحديث، خاصة في مجالات علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي، لا ينكر تمامًا وجود إدراك لا واعٍ، لكن لا يعتبره خارقًا، وجهة نظر العلماء: الباطن يُحلل المعطيات بسرعة دون وعي.

قد يظن الشخص أنه "شعر" بخطر ما، بينما في الواقع، دماغه التقط خفية (حركات، أصوات، تغيرات) وفسّرها فالذاكرة والتجارب تلعب دورًا كبيرًا والمواقف السابقة تشكل قاعدة بيانات يستخدمها الدماغ للتنبؤ بالسلوك أو الأحداث.

لا دليل علمياً قاطعاً على التخاطر

رغم وجود دراسات تجريبية في هذا المجال، إلا أن النتائج غالبًا ما تكون متضاربة وغير متكررة بشكل علمي دقيق، لكن بعض العلماء ما زالوا منفتحين على احتمالية وجود قدرات عقلية لم تُكتشف بعد، فالعقل البشري لا يزال يحوي الكثير من الأسرار.

الحاسة السادسة .. بين الفطرة والخيال
الرؤية الإسلامية: هل يؤمن الإسلام بالحاسة السادسة؟

الإسلام لا يرفض فكرة وجود أمور خارجة عن نطاق الحواس، لكنه يضع لها ضوابط شرعية واضحة. والأصل أن الغيب لا يعلمه إلا الله.

﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾[النمل: {65

لكن ورد في السنة أن بعض الناس يُلهمون الصواب دون أن يكونوا أنبياء، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم محدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر". (رواه البخاري)

و"المحدَّثون" هم أناس يُلقى في قلوبهم الحق، وهم ليسوا أنبياء، ولكن لديهم فراسة صادقة أو إلهام من الله. ومن هنا يُقر الإسلام بإمكانية وجود إدراك فطري عميق، لا علاقة له بالسحر أو الشعوذة.

قصة "يا سارية الجبل"

من القصص المشهورة في هذا السياق ما رواه المؤرخون عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كان يخطب الجمعة في المدينة المنورة، وفجأة صاح "يا سارية، الجبل الجبل"!

وكان القائد سارية بن زنيم يقود جيشًا في بلاد فارس، وقد سمع النداء واتجه إلى الجبل فنجا من كمين محكم. عندما عاد الجيش، أخبروا عمر أن كلامه سُمع في المعركة كما هو، في نفس اللحظة.

رغم انتشار القصة، لم تُثبت بسند صحيح عند المحدثين، لكن بعض العلماء ذكروها في باب كرامات الأولياء، وفسروها بأنها إلهام خاص من الله لعمر رضي الله عنه.

هل يجوز للمسلم دراسة التخاطر؟

المباح هو دراسة الحدس أو الفراسة الطبيعية، وفهم العلاقة النفسية بين الأقارب والأحبة.
أما المحرم فهو استدعاء الأرواح، استخدام طلاسم أو رموز سحرية، التعامل مع الجن أو الكهان، الاعتقاد بإمكانية التحكم في الغيب.

قال الله تعالى: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ البقرة: 102
ولهذا، فكل من يدّعي قراءة الأفكار، أو التأثير بالطاقة، أو التحكم في مصير الآخرين، فهو إما كاذب أو دجال أو يفتح بابًا للشيطان.

هل الفراسة هي الحاسة السادسة؟

يمكن القول بأن الفراسة هي أقرب تفسير شرعي وعلمي للحاسة السادسة.

والفراسة لا تعني الغيب، بل بصيرة نافذة يضعها الله في قلب عبده، تجعله يميّز بين الصادق والكاذب، أو يدرك بعض الأمور دون شرح أو أدلة ظاهرة.

دروس من قصة عمر رضي الله عنه


الفراسة لا تُعارض الدين: بل قد تكون من نعم الله على بعض عباده.
الكرامة لا تُبنى عليها أحكام: نؤمن بها، لكن لا نتخذها مصدرًا للتشريع أو العقيدة.
الحذر من الدجل: لا يجوز الخلط بين الكرامات والدعاوى الباطلة التي يروج لها بعض مدّعي الطاقة والتخاطر.
التوازن في الفهم: الحاسة السادسة إن وجدت، فهي جزء من العقل والفطرة، وليست قدرة خارقة أو وسيلة للغيب.
في النهاية يمكن القول، والله أعلم، إن الحاسة السادسة، وإن بدت غامضة ومحيرة، إلا أنها لا تخرج عن دائرة العلم أو الفطرة أو حتى الإلهام الرباني. قد تكون في بعض الحالات حدسًا صادقًا، أو نتيجة تفاعل نفسي عميق، أو فراسة مؤمنة، لكنها ليست بالضرورة قدرة خارقة أو علمًا بالغيب.

أما التخاطر بصورته المنتشرة في كتب الطاقة والتنمية البشرية الحديثة، والذي يدّعي البعض أنه وسيلة للتواصل العقلي أو استدعاء الأرواح، فلا أصل شرعياً له، وقد يفتح أبوابًا للشعوذة والانحراف العقدي.
يجب على المسلم أن يتحلى بالاعتدال، وأن يُفرّق بين الفراسة والإلهام، وبين الخرافة والدجل. فالعقل نعمة، والدين نور، والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
نسأل الله أن يُلهمنا رشدنا، ويهدينا إلى الحق، ويجنبنا الوقوع في الفتن والدجل، وأن يرزقنا نور الفراسة ونقاء الفطرة.



التعليقات

فيديو العدد