كيف تتفاعل مجموعة "يد أمي" القصصية مع الأطفال؟
العدد 160 - 2024
الكتابة الموجهة للطفل لا سهولة فيها كونها بحاجة لتكامُل العديد من العوامل والعناصر والعلوم والفنيات المناسبة، ولا بد أن تكون شخصية الكاتب مفعمة بطفولة لا تغادره، ليظلّ يكتشف مع قارئه الطفل الحياة الذاتية والموضوعية والطبيعية، وذلك من خلال الزوايا التبئيرية المختلفة والمتنوعة، بغية توصيل أهدافه التربوية واللغوية والجمالية والعلمية والمعرفية بأسلوب فني غير مباشر، خصوصاً في زمن تكنولوجي متسارع.
كثيرة هي الكتب الموجهة للأطفال بمراحلهم العمرية المختلفة، منها مرحلة الفئة بين (7ـ 10) سنوات، ومن تلك الكتب نقرأ مجموعة قصصية بعنوان "يد أمي/60 صفحة" الصادرة عن دائرة الثقافة بالشارقة، الفائز بجائزة الشارقة لكتاب الطفل، وهي من تأليف الكاتبة الإعلامية عائشة مصبّح العاجل، ورسوم أيهم حويجة المعبّر عن كل حكاية برسومات متحركة بين الواقعية والكارتونية من حيث ملامح الشخصيات والبيئة المحيطة، خصوصاً، العائلية والمنزلية، وبألوان محببة وجاذبة للأطفال.
لكن، ما الذي تضيفه الكاتبة عائشة العاجل في هذه المجموعة؟
لقارئ المجموعة أن يلتفت إلى حضور الطفل ـ أو الطفلة ـ بضمير المتكلم الذي يحكي القصص من بيئته الأسرية والمحلية، ابتداء من القصة لأولى "يد أمي"، وكيف تصف طفلة القصة أمها ويومياتها ويدها التي تعمل منذ الشروق إلى لحظة النوم، وكيف يمرّ النهار والليل والأم لا تشكو من التعب، بل يظل وجهها باسماً، وعطاؤها متواصلاً، ومحبتها لا تنتهي وهي ترعى الطفلة وأخواتها بين استحمام ولباس وإطعام وتنظيف وترتيب شعر، وتعلمهم الكثير من الأشياء، منها كيف يمسكون بالقلم.
ومن الناحية الفنية، تتسم "يد أمي" بلغة بسيطة، تقطع المشهد وتصله بمشهد آخر، وبين القطع والوصل رشاقة مشوقة، تشدّ الطفل للقراءة، وتمنحه قيماً منها أن يحترم تعب أمه، ويقدّر ما تقوم به بحنان، وتؤكد العاجل على ذلك بتضمينها لحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن الأم، تضميناً مناسباً في السياق، متعلقاً بالمعلمة والمدرسة، ليخبر منطوق الطفلة القارئ بالمبادئ الأخلاقية.
وتأخذه الكاتبة أو الضمير الطفلي المتكلم مع اللغة إلى وصف شعري يضم الطبيعة من عصافير وأشجار وغيوم ونجوم ويحوّلها إلى صورة لصعود الدعوات الجميلات من يد الأم لتعود بالفرح والخير والسرور، وعلاقة هذه اليد ذات اللطف الدائم بتحريك الشمس تجاه أطفالها: "تدور الشمس وكأن أمي توجهها نحونا، لتبني في أجسادنا الصغيرة الصحة والعافية، وما زالت يداها تشتغلان معنا منذ الصباح الباكر وحتى نغفو عليهما في المساء".
وهنا، نكون قد دخلنا بتشعبات الوظيفة اللغوية مع عناصر الوجود وعلاقتها بالصحة والحياة، من هواء وماء وضوء وتربة وبيئة خضراء، وهذا ما نقرأه في القصة، كلما ذكرت الطفلة يد أمها: "يد أمي تفتح شبابيك الأمل والنور للحياة، ليأتي الضوء إلينا ويغرد العصفور على نوافذ الأمل".
ولا تنفصل الطبيعة عن بيئتها داخل البيت، لأنها موجودة في عدة أماكن في القصة سواء المدرسة أم الحديقة، كما لا تنفصل الأحداث ومشاهدها عن المحبة التي تمتد إلى هذه الطبيعة، وتبادلها العطاء: "في الحديقة عشب مرتب، وشجرة لوز وتوت، وعلى سور الحديقة إناء صغير يشرب منه العصفور، يد أمي لا تنسى أن ترعاه، وتضع الحبوب للدجاج والصفصوف، وتطعم القط والكلب".
وتواصل الشمس أيامها مع القصة الثانية "عيون الصبح"، ليكتشف الطفل أن عيون الأم كعيون الصبح ذهبية وكبيرة، وكأنها الشمس التي تضيء الحياة والألوان والأشياء: "وصوتها عصفور قلبه أخضر، كالساحات التي تزرعها في الحوش بالفل والريحان"، وهذه العيون تحاول إيقاظ الطفلة الساردة لحكاياتها إلا أنها لا تنفض نعاسها إلا مع نقرات العصفور الأصفر الصغير، ولا تنام إلا وهي في حضن أمها تلهو بإسوارتها وتستمع لقصصها التي تحكي عن المطر والشجر والجبال والجمال والصداقة وحق الجار.
والطفلة مثل أطفال العالم تعتقد أن أمها تعرف كل شيء، لذلك، تراها كتاباً، وهذه إشارة على حضور الكتاب والمكتبة في القصة والواقع: "أحياناً، أعتقد أن أمي كتاب كبير له فصول مثيرة وكثيرة، وقد لا تسعه مكتبتنا المنزلية".
ويأتي دور هذه المكتبة في وقت الفراغ، واجتماع العائلة حول قراءة كتاب، ويبدو دور الكتاب واضحاً من أجل التعلّم والضحك والتجوال في دروب الحياة والعالم، وتحضر الألعاب في وقتها بعد الظهيرة، ومكانها تحت السرير، وتتآلف الطفلة مع البيت والحوش وكائناته الحية من نباتات وقطط وكلاب، وتبرز العلاقة مع الجيران وتبادل الأطباق، وما تتركه اللقاءات من شغب وذكرى، وحكايات للرفاق في المدرسة.
بينما تأتي القصة الثالثة عن "المطر"، وكيف تملأ القدور والأكواب الصغيرة الحوش لتجميع المطر، والفرح الذي يصاحب المطر، والدعاء بالخير، وتعتمد هذه القصة على مقول شخصية الأم "أمي تقول"، لتشرح القصة أهمية المطر للكائنات من ورد وأشجار وعصافير وغصون أشجار وأرانب.
أمّا وظيفة المطر الخرافية فغلبت وظيفتها العلمية، لأن اللؤلؤ لا ينتج عن حبات المطر الساقطة في المحار، ولا الأحلام الجميلة ناتجة عن حبات المطر المتساقطة في عيوننا، إلا أنها تظل صوراً متخيلة جميلة، أقرب إلى الشعرية، تركّز على أهمية المطر لأن "السماء لا تمطر إلاّ خيراً"، وتهمس بضرورة التعامل مع الآخرين والكون بصفاء: "أمي تقول: إن حبات المطر التي تسقط في أعيننا هي التي تجعلنا نرى أحلامنا حقيقة جميلة، ومن خلالها، نرى بهاء الكون بلون صاف كصفاء ماء النهر".
وتنحو القصة الرابعة "خيمتي الضاحكة" إلى حالة من شغب الأطفال في البيت وهم يتخيلون كل شيء مع قابليته للتحول، مثل الشرشف الذي يصبح خيمة، وكيف يجلس أفراد العائلة على أسرّتهم محولين شراشفهم إلى خيام يظنها الطفل الراوي "خالد" بأنها خيام حقيقية، فيحدث نفسه: "لا بد أنك غارق في النوم يا خالد، وسابح في الحلم"، لكنه يقترب من الخيمة الأولى ليرى أخاه محمد نائماً تحتها ورافعاً رجليه كي لا يطيح عليه الشرشف، وفي الخيمة الثانية يرى أخاه سعيد وأخته دانة مستغرباً اتفاقهما هذه المرة، وفي الخيمة الثالثة يرى أمه وأخاه ماجد يرسمان، وماجد لاعب قوى يقف على يديه رافعاً الشرشف بقدميه لكنه يقع، وتطيح الخيمة تلو الأخرى، وتسود الضحكات، في مشهد أقرب إلى المسرح المنزلي، تجعل من الجو العائلي محبباً، ومن الطفل السارد شخصية تعرّف القراء على شخصيات إخوته ومواهبهم وسلوكاتهم وتعاملهم معاً.
وتختتم عائشة العاجل مجموعتها بالقصة الخامسة وعنوانها سؤال يخطر في كل بال "من الطارق؟"، وتبدأ بسؤال: "هل تعرفون من الطارق؟"، فاسحة لمخيلة الأطفال أن يتخيلوا الشخصية التي تقف خلف الباب، وكلٌّ حسب توقعاته الداخلية، وهذه من القصص التفاعلية التي تظهر فيها العاجل كساردة عالمة بكل شيء، مراعية منطوق الشخوص وآفاق توقعاتهم، وهم الإخوة سالم الذي توقع وحشاً مخيفاً، وعمر الذي ظنّ أنها الخالة سلوى الجميلة صديقة الأم، وأحمد الذي كان بلا توقعات، لأنه واقعي، فأجاب: "لا أعرف من الطارق، دعونا نفتح الباب لنعرف من خلفه، ما رأيكم؟"، والذي يوصل الهدف الأول من "القصةـ السؤال" بقوله: "احتمالات تخيلاتكم قد تكون صحيحة وقد لا تكون"، ليوضح أن ما نعرفه داخل البيت هو غيره خلف الباب، لأن هناك عالم آخر نتعرّف إليه: "فخلف الباب عالم لا نعرفه، لا بد أن نفتح الباب، لنفهم ونعرف ونتأكد".
إلا أن "سالم" و"عمر" يصر كل منهما على احتمالاته، فيكرران ما يتوقعانه، و"أحمد" يصر على فتح الباب، وحالما يفتحه، يرى أمه وأباه وأخته مريم، لكن، ولا أي منهم كان قد طرق الباب، بل كان الطارق هو قط يلعب على العتبة.
أمّا الهدف الثاني من القصة فهو السؤال والتركيز عليه لأنه بوابة العلم والمعرفة، وهذا ما توضحه الكاتبة عائشة العاجل من خلال منطوق الأم: "أحبتي، نعم، فالمعرفة تحتاج لسؤال، والمجهول يجعلنا نتخيل، وأفكارنا هي التي تجلب لنا السعادة، إذا ما تخيلنا الفرح والأشياء الجميلة"، وهنا، يضاف إلى السؤال حالة من كيفية توظيف التخيل بحالة من التفاؤل، يكملها منطوق الأب الذي يتخذ من الطرق والباب والتخمين حالة من الانفتاح على الاتجاهات والعالم من خلال انفتاح القلوب على القادم من الحياة: "أحبتي، خلف الباب، وخلف النافذة، وخلف كل جدار، هنالك قصة، صوت ومعنى ولون وحركة، فلنفتح قلوبنا قبل أبوابنا، ونتطلع للقادم بفرح، ونستقبله بحب وسعادة، فالحياة فرصة خاصة لكل واحد منا".
وليس أخيراً، نستنتج كيف تنمّي المؤلفة عائشة العاجل الوعي والسلوك والمعرفة من خلال الإحساس اللغوي والنفسي والبيئي والاجتماعي، وتضيف، وبطريقة غير مباشرة، لعالم الطفل، حالة من واقعه المحلي والعربي، وحالة من الحلم والمخيلة والتربية والتساؤل، وتدفعه ليكون شريكاً في القصص، وحاكياً لها أيضاً.
التعليقات