"سردية الكولاج المسرحي" وقصص "كحل إثمد"
العدد 163 - 2025
أن يكون للتراث الشعبي مكتبة، فهذا يعني أن الذاكرة دائمة التحديث والحضور، وهذا ما يفعله "معهد الشارقة للتراث" انطلاقًا من شعاره (نصون التراث... نحفظ الهوية)، من خلال مبادراته المتنوعة، ومنها "مكتبة الموروث" الإماراتي والعربي والعالمي؛ وهذا ما تؤكّد عليه كلمة الأديب الشاعر الباحث الدكتور عبد العزيز المسلم، رئيس المعهد، كمقدمة لهذا المشروع الذي صدر عنه العديد من الكتب، منها "كحل إثمد وقصص أخرى" للكاتبة الإماراتية فاطمة المزروعي – رئيس قسم الأرشيفات التاريخية في الأرشيف والمكتبة الوطنية، التي تجاوزت إصداراتها العشرين كتابًا بين شعر ومسرح وقصة ورواية ومقالة وبحث، ومنها روايتها "كمائن العتمة" المترجمة إلى اللغة الهندية، الفائزة بالعديد من الجوائز في مجال الأدب والثقافة، والحاصلة على منحة متحف زايد الوطني.
والقارئ لهذه المجموعة، سيتساءل: كيف انعكست الذاكرة المحلية من القصص موضوعيًّا وفنيًّا بهذه الشفافية العميقة؟
تتداخل شخصيات القصص مع الأبعاد الأخرى بموضوعيتها وتفاصيلها وحواراتها، من خلال ضمير الكاتبة المزروعي كساردة تتشارك الحكي مع ضمير شخصياتها ذات المنطوق المنسجم مع عالمها الداخلي والحياتي والاجتماعي، وذلك ضمن سيناريو حيوي وبسيط في آنٍ معًا، يتناسل حكاية من حكاية، تاركًا لتدرّجاته أن تعكس أبعاد الحيّز المتحرّك، وإشاراته الزمنية، وتنويعاته المكانية، ويومياته الحياتية المترافقة مع هامش شرح للمفردات الشعبية.
وهذا ما نبدأه مع قصة "بقشة أمونة"، أو "بقجة"، أي "الصرة القماشية المربعة" التي تعرفها أمهاتنا وجداتنا، وتوظفها "أمونة" الخمسينية للبضائع التي تبيعها لنساء الحارة في وقت يبدأ مع العصر، وما يحدث فيه من حركة الخادمات والعمال، مثل الرجل البنغالي الذي يغسل السيارة.
تتمتع البطلة بدخولها إلى البيوت كأي فرد من أهلها، مما ساعدها على معرفة كل التفاصيل، تاركةً لذكائها الاجتماعي أن يتحرك، تمامًا، كما تتحرك أساورها الذهبية المقلّدة بذراعها، مانحة الرنين أبعادًا يشبه عباءتها القديمة و"كحل الإثمد" الذي يزين عينيها.
تطوف الحارات والأزقة بقدرتها الحكائية والتجارية الموروثة عن والدتها، مقنعة النساء بشراء بضاعتها الأجنبية، تلك التي يحضرها زوجها "حمود" من الهند أو البحرين أو إيران.
هي التي عاشت طفولتها في "الفرجان"، وترتدي ثوب "بو طيرة"، والقادرة على إيجاد الحلول لكل المشاكل، حاكية للقارئ عن مسار للذاكرة ومسار للحاضر، تصرّهما مع "بقشتها" لتصل إلى نهاية قابلة للتوقعات المتنوعة بخصوص مصيرها وزوجها:
"حمود زوج أمونة تم القبض عليه بتهمة الإتجار بالبشر، أما أمونة، فبعض الجارات قد حلفن أغلظ الأيمان إنهن شاهدنها في بعض الحارات تجرّ بقشتها الثقيلة خلفها وتدخل البيوت كعادتها دون استئذان، والبعض الآخر شاهدها على شاشات التلفاز وهي تتحدث بطلاقة كبيرة، وكان عنوان البرنامج (بقشة أمونة)/ ص34."
وتظهر هذه "البقشة" كإرث للبطلة من أمها في قصة "اسمي حصة/ ص87"، فنتعرف إلى حياتها كحصص بين زواج جعلها أمًّا لطفل يعاني التوحد، وانفصال دفعها لتغامر مع قلبها لتدخل تجربة ثانية مع ابن الجيران "آدم"، رغم معرفتها بشخصيته الانطوائية واهتماماته بالجرائم المنشورة في الصحف، وموت أمه منتحرة، وما في سيرته من تداخلات تكتشفها من خلال لقاءاتها به بطريقة ليست من نسيج المجتمع، لدرجة أنها تفكر بالهرب معه ليلًا، وتنتظره في المكان الذي تجلس فيه مع "بقشتها" في السوق القديم بأبو ظبي الذي احترق عام 2003، عندما كانت تنتظره مع طفلها الساعة (2) ليلًا، لكنها لم تره، وتجعلنا نشكّ به كفاعل لهذا الحريق، أو كضحية، مثلها، غير أنها ما زالت تخاطب القراء:
"ربما سافرت بعيدًا مع ابني، أو غادرت هذه الحياة. إذا شعرتم بالاشتياق لي، فسوف تجدونني واقفة بجانب بقشتي في مكان ما من هذه الحياة."
الملاحظ أن القاصة تنتقد بذكاء بعض السلوكيات، كما في "اسمي حصة"، وقصة "أمّ السعد"، الشخصية التوءم لشجرة "الهمبا"، المجسّدة للمرأة المطيعة القابلة بمعاملة زوجها، لدرجة أنها لم تأكل يومًا معه لأنه الرجل الذي يجب أن يأكل أولًا!
ولا تهتم لملاحظات أهلها وصديقاتها اللواتي أكملن تعليمهن، وانخرطن في تفاصيل العمل والحياة. ورغم هذا الظاهر، تعاني في الباطن صراعًا يتكشّف مع خاتمة القصة الموحية بوفاة زوجها بحادث، مسترسلة في كوابيسها مع العزاء إلى الخاتمة التي تخبرنا بأن الشخصية المتوفاة هي "أم السعد" وليس زوجها الذي يستقبل المهنئين بعودته والمعزين بوفاتها!
تتمحور قصة "ابن بحر" حول شخصية بطل القصة "بحر"، الطفل الذي قال عنه كبار السن إنهم وجدوه في القارب وحيدًا، وأمه من مخلوقات البحر الكبيرة، وأبوه البحر، و"اخترعوا الكثير من الإجابات/ ص36" عن طريقة حياته الغامضة كونه يحضر ويختفي، ولا يعرفون ماذا يأكل وأين ينام، وذلك منذ عشرين عامًا!
لكنه يشاركهم أحزانهم وأفراحهم ومناسباتهم التقليدية مثل ليلة الحنّاء و"حق الليلة"، وينشد معهم: "عطونا الله يعطيكم.. بيت مكة يوديكم"، وبدورهم يسمحون له بدخول بيوتهم وتناول الطعام والاختلاط ببناتهم وعيالهم: "صار أخًا لهم جميعًا / ص38". ووحدها "عويش الطلابة" كانت تغير منه وتنشر الكثير من الشائعات عنه.
ورغم الكثير من القصص والحكايات التي تدور حوله، نراه يحترف صناعة الأدوية بعدما تعلّمها من الأطباء الشعبيين، إضافة لعمله في مهن أخرى.
ولكن، بعدما كبر، صار الأهالي يمنعونه من دخول بيوتهم خوفًا على بناتهم، ووحدها "سارونة" كانت تلعب معه إلى أن كبرا، وتحابّا، فطلبها للزواج، وأهلها رفضوه.
وتدخلت "عوشة الطلابة" لتمنعه، وخدعته حين استدعته لبيتها لمساعدتها، لكنها فعلت كامرأة العزيز، وذلك بطلب من أهالي القرية، وهو تأبّى، حينها اتهمته، وحكم عليه الشيوخ بالجلد والإبعاد.
وبعدما اختفى، بدأ الكساد وانتشرت أمراض الحمّى والطاعون، وغضب "البحر ـ الأب" وأرسل جنوده، وهم من الشخصيات الخرافية الإماراتية، ومنها "بابا درياه" الذي تخافه البحارة، و"سلامة وبناتها" وهنّ أمّ بحر وشقيقاته.
وبدأت الحياة تنقلب إلى يباس وموت، مما دفع "سارونة" إلى البحث عن "بحر"، الذي حملها إلى خاتمة مفتوحة على عدة نهايات:
"ربما للعيش معه في مكان بعيد / ص51"، أو ربما ماتت بحمّى شديدة ودُفنت. وقيل: بعض المسافرين رأوها ومعها بحر وأطفالهما في عرض البحر، وقيل: البعض شاهدها وبحر يلعبان "الغميضة"، وخلفهما يركض أطفالهما بسعادة".
بينما في قصة "موزان الرمسية"، فتنطلق القاصة من الملامح الجسدية لهذه المرأة، التي لا يتجاوز طولها مترًا، وكيف تلتقي تجاعيد وجهها مع متعرجات حياتها، وتتمركز في طبعها الشخصي كحكّاءة لا تملّ من سرد القصص والتسوّل.
وتشبه إلى حدّ ما "هيلين" بطلة الأسطورة اليونانية، أو "شهرزاد" ألف ليلة وليلة، و"موناليزا" دافنشي، وأخيرًا، "أم الدويس" ومنجلها الذي لم يسمح لبطلة القصة الجامعية بالنوم، أو صار بالنسبة لها جاثومًا، جعلها تنادي أمها التي تقرأ لها ما تيسر من آيات القرآن الكريم.
لكنها لم تخبرها بأن نظرات "موزان" الخبيثة هي السبب، ونرافق ذلك مع ظهور سرقات في الحارة، وكان البعض يقول بأنه شاهد فتاة جميلة، وإحدى رجليها رجل حمار، والأخرى "داس/ منجل".
وذات يوم، تستيقظ الطالبة على حريق يلتهم منزلها مع ما التهمه من بيوت الحارة، وتلمح "موزان" تخرج من النيران حاملة طفلها الصغير، ثم تختفي.
وهنا تبدأ تخامين النهاية تطاردها، لكنّ البطلة ترى صورتها مع طفلها وزوجها في مكتبة الجامعة في صحيفة عمرها أكثر من (50) عامًا، وكُتب تحتها:
"أسرة تموت حرقًا في الرمس بسبب تماس كهربائي / ص62"، وتتخيلها الطالبة حيّة، وتكمل: "أحاول اللحاق بها، أو بطرف عباءتها الذي يسحب الشوك".
وتأخذنا قصة "بنت المطر" إلى الكرم والضيافة واللباس الفلكلوري، من خلال شخصية الأم، ومحيطها، ومنه النخلة والجمل المرسومان بلون ذهبي على فنجان القهوة الأبيض، وما تحكيه الفتاة المحبة لملامح الطيبة الحنون لضيفات أمها "بنت المطر"، التي ورثت، بدورها، عن أمها الروح الطيبة والصبر، وهو ما تمتعت به بنات جيلها: "سيدات مجاهدات استطعن الصبر وسط حياتهن التي قد تكون في فترات مؤلمة، وفي فترات أخرى سعيدة / ص73".
بينما تتقمّص "فاطمة" شهرزاد، في قصة "فاطمة"، وهي تحكي (8) قصص بالتصرف من عوالم "ألف ليلة وليلة"، لتطلعنا على سيرة حياتها وزيجاتها السابقة ومظهرها، كونها صاحبة "صالون نسائي"، وكيف ظهرت فجأة في حارة أهل الشاب "سعيد"، الوحيد لأهله مع (3) بنات، وكيف خرج من اتهامات زملائه بالضعف وتنمّرهم عليه، إلى قبضة يده كأسلوب كلام وقوة، ثم تاه في الحياة، ورفض الارتباط بابنة عمه التي تزوجت لاحقًا، كونه أغرم بفاطمة التي تكبره بعقدين من الزمن، ولم تتزوجه، ليفاجأ بأنها رحلت مثلما أتت، غير محتملة كلام أهل الحي عنها.
وتشدّنا قصة "ثقب روحي" إلى بُعدٍ باحث عن النور في الذات والمكان، من خلال البطلة التي تحكي عن حياة أمها المريضة المتألمة التي هجرها زوجها، وكيف كانت تلهو مع صديقتها "سعاد" التي تزوجت، وتتحدث عن محيطها وأعماقها، بتأملات تصل إلى ثقب "اليقين" الروحي، المؤدي إلى الهداية.
بينما في قصة "الرجل الذي فقد نفسه"، فنلاحظ كيف تنعكس الملامح النفسية على "عبد الرحمن"، القادم من بلد تعاني الحرب، لكنه يترجمها بعدسة "الكاميرا"، إلى جانب وجوده في "بقالته" التي وظّفها، أيضًا، لعرض الأفلام السينمائية، ليزيد دخله.
وبعدما انتشرت صوره، بدأ يجني أموالًا أكثر، وصار يتعامل مع شخصيات ذات مكانة تعكسها ثيابها، مما ساعده على الانتقال إلى بيت كبير، ولكنه يختفي، بينما يظل بيته القديم ممتلئًا بالصور، التي قد يجد القارئ له صورة ما، كما تقول الخاتمة.
وتلفتنا القصة الأخيرة "بارهوز" بشبكة علائقها بين الحالة النفسية والواقعية، وأحلام الشخصيات وتكرار المصائر في الموت بالبحر والغياب، بحثًا عن تحقيق الأحلام، وهذا ما تعانيه "أم مطر"، البطلة التي تحكي عن حياة جدتها وأمها، وكيف فقدت كلّ منهما زوجها في رحلة غوص وبحر، تمامًا مثلما فقدت زوجها "جمعة"، الراكض وراء أحلامه، التي جعلته يسافر إلى البحرين، وكان أولها الانتقال من بيت من سعف النخل والخوص في "بارهوز" إلى بيت معاصر في أبو ظبي.
يلعب هذا الغياب ـ الحاضر في أغلب القصص ـ دورًا في حياة البطلة المشتتة بين أمها المريضة في المشفى، والحريق المفاجئ الذي شبّ في الحي الذي تسكنه، وكيف بدأت بالصراخ باسم ابنتها "أمل"، وابنها "مطر"، وكيف مضت رحلتها النفسية في بؤرة صراع مؤلمة، لم تتلاشَ إلا مع سماع البطلة لصوت زوجها وولديها، وهي تصحو من غيبوبتها أو كابوسها، لتكون النهاية مطمئنة إلى حدٍّ ما.
نلاحظ أن كل قصة من "كحل إثمد" عبارة عن شرفة نطلّ منها على الذاكرة الإماراتية الموروثة وحياتها المعاصرة، ومن أهم ثيماتها الفنية:
ارتكازها على الغموض الذي يَحف بالشخصيات، وتفعيل المخيلة على دراميّة النهايات المفتوحة، والتداخل بين الأثر الرجعي واللحظة المحكية، ضمن إيقاع متسارع للجملة، متشاكل مع انسيابية اللغة، ومتناغم مع المباشرة والإيحائية، منتجًا صياغة معشّقة بما اصطلح عليه "سردية الكولاج المسرحي"، الناتجة عن تحرّك البنية النصية بين القصة والحكاية والمشهدية السيناريوهاتية، وما يتفرع عنها من فنية تعرف كيف تنفصل وتشتبك، مرتكزة على "الشخصية البطلة" وأسمائها المستمدة من الذاكرة المحلية، أو على المكان كبطل، أو تنزح إلى بطولة أخرى للرمز الروحي والفلسفي.
التعليقات