فاطمة العامري وأفق التوقعات في قصص "الوجه"

فاطمة العامري وأفق التوقعات في قصص "الوجه"
فاطمة العامري وأفق التوقعات في قصص "الوجه"

للوجه حكايات ورموز وملامح تعبيرية متنوعة، تختزل ما يجول في الأعماق، وتوصل الرسالة، وتكشف بقدر ما تُضمر، لأن بعض الأشخاص يستطيعون أن يظهروا المشاعر التي يريدونها فقط، ويضعوا العديد من الأقنعة، فلا تعرف وجههم الحقيقي! وهناك من لا يستطيع الإيهام أو الغموض، فيبدو ما في داخله واضحاً على وجهه بمنتهى العفوية.

ولأهمية الوجه خلقه الله في الرأس، وصار رمزاً لأبي الفنون ضاحكاً أو حزيناً، ليعبّر باختزال عن "التراجيكوميديا"، أي، المضحك المبكي، العاكس للحياة.

لكن، لماذا لا نستطيع أن نرى وجهنا إلا في عيون الآخرين، والمرايا، وحالياً، في الشاشات الإلكترونية؟

هذا ما تجعلنا نتساءل عنه المجموعة القصصية "الوجه"/ 114 صفحة/ الصادرة عن دار قنديل للطباعة والنشر والتوزيع" لكاتبتها فاطمة العامري الحاصلة على بكالوريوس العمارة والتصميم الداخلي، الحائزة على عدد من الجوائز الأدبية والفنية.

لقد اتخذت الكاتبة من "الوجه" محوراً أساسياً لستة عشرة قصة قصيرة، ابتداء من الغلاف الموزع إلى خمس نوافذ تظهر منها وجوه بحالات مختلفة، نفسية، اجتماعية، واضحة، غامضة، مقنّعة، أو محذوفة الوجه نتيجة حادث ما كما في قصة "الوجه" الذي لا يعرفه صاحبه، ذاك الطفل "سعيد" الذي لم يرَ وجهه أبداً لأن بيتهم بلا مرايا، وهذا ما اتضح عندما تطلب معلمة الصف وداد أن يرسم الطلاب أنفسهم، لكن الطفل رسم بيتاً في الطبيعة مع العائلة، ونال درجة ضعيفة، إلى أن أوضح له زميله يوسف المقصود، فعاد إلى البيت ليسأل عن المرآة، وهو ما لم تجبه عنه أمه ليكتشف بنفسه خلاء بيتهم من المرايا لأن أخاه "سيف" لا يحب المرايا لكي لا يرى وجهه المحترق، هو الماكث في غرفة في البيت ويعاني جسدياً ونفسياً، وحالما علم بذلك، بعد قراءته لمذكرات أخيه التي اختطفها بعدما أخرجت الأم ابنها لعيادة الطبيب، يتعاطف سعيد مع أخيه، ويرفض أن يرى وجهه حتى في الأواني المعدنية العاكسة، ولم تعد علامة الواجب تهمه.

اعتمدت القاصة على المونولوج الداخلي لبطلها سعيد الذي تحدثت عنه بضمير المتكلم، وحكت معاناته، ووظفت يوميات سيف كمونولوج آخر، وتركت البطل الصغير يكبر ليتأكد "أن وجوهنا لا تشبهنا... لا تلخصنا".

فهل فعلاً لا نشبهنا، أم أن لوجوهنا حالات لا تتشابه؟

نلاحظ أن الثيمة الموضوعية للقصة وفكرتها توصل التعاطف مع الذين يفقدون جزءاً من أجسامهم، كما تشير إلى عدم أهمية رؤية الوجه ما دامت الدواخل متبدلة، ونلاحظ أن كلمة "أبلة" العامية جاءت بدل المعلمة، كما أن القصة غير مقنعة من ناحية الطفل الذي اكتشف وجهه متأخراً في "صينية المطبخ" فجأة، لأن الأطفال، بلا شك، يفعلون ذلك عفوياً في فترة سابقة على انضمامهم للمدرسة، ولربما اكتشفوا النافذة الزجاجية كمرآة، أو إحدى المرايا الموجودة في المدرسة، أو السيارات، أو زجاج المحلات، فيما إذا نفينا الشاشات الإلكترونية.

وتطل علينا قصة "لا أحد" لتحكي عن الحالة النفسية لطفل توفي والداه، وصار في دار الأيتام، لتأتي عائلة وتتبنّاه، وتميزت هذه القصة بغموض الاسم الحقيقي للطفل الذي كلما جاء لينطق به جاءه حدث آخر ليجعله محتفظاً باسمه الذي يود لو يخبر عنه مجتمع القصة والقراء، إلا أن العائلة التي تبنته أسمته "ثامر" على اسم ابنها الذي فقدته، وعاملته برفاهية، ورغم ذلك كان يبحث عن اسمه ونفسه لأنه يشعر بأنه ليس ذاك الرقم الذي منحته إياه دار الرعاية، وليس هو "ثامر" بكل تأكيد، وضمن هذا الصراع الدرامي الحساس، عندما يرى صور "ثامر" الحقيقي وكم تشبهه، عدا شامة كانت تخطها الأم على وجهه، لكنها تتلاشى في غرفته مع دمعاته أمام المرآة، وهو يتساءل: "من تكون أنت"، ليأتي الجواب: "لا أحد"، وذلك بعد اكتمال المفاجأة مع زيارته والعائلة إلى قبر "ثامر"، وهو يحكي لنا: "أمّا زوجها، السيد أحمد، فقد كان يأخذني مع كل يوم جمعة إلى المقبرة، فينكبّ باكياً أمام قبر كتب عليه اسمي، ثامر، ونقرأ الفاتحة معاً على روحي".

وتتخذ بعض القصص حالة من النقد غير المباشر لكثير مما يحدث في العالم البشري، ومنها قصة "ملح.. سكر.. حب"، التي تكشف من خلال تفاصيل صغيرة العلاقة بين الحب و"قرص الخد" تلك التي تعبّر من خلالها إحدى السيدات عن حبها لهذا الطفل العبقري الذي يفكك الكلمات مثل المركّبات الكيميائية، ويمتلك عقلاً ملتصقاً بالكلمة الأولى من القصة: "براعة"، وهي طريقته في التعبير ثلاث كلمات شكّلت العنوان، وتشكّل لازمة يكررها مع كل حدث، إلا أن الطفل يفقد تلك البراعة والعبقرية مع إجراء عملية دماغية له، ليصبح كما في الخاتمة طفلاً في الثالثة من عمره يمص إبهامه ويحبو!

أمّا قصة "شششش"، فتجعل القارئ يتساءل لماذا اختارت القاصة هذا العنوان؟ هل للدلالة على تكرارات الحرف الداعي إلى الصمت، أما كان من الممكن أن يكون العنوان "الصمت الغامض" مثلاً؟ أيضاً، يبدو في القصة اتكاء على "الصورة" في إحدى قصص "غوغول"، لتكون المحور لبطل القصة الصغير وهو يحدّث صورة أبيه عن يومياته وهو يحسب أنه سر بينهما، لكن الخاتمة تكشف عن معرفة الأم بذلك من خلال دموعها وضحكها وكأنها كانت تكلم زوجها المتوفى، وليتأكد الطفل بطل القصة يفتح الباب، وليت القاصة توقفت عند "لأفاجأ وأكتشف" ولم تكمل: "أمي تعرف سري"، لأن الشرح أحياناً يبطئ عامل التشويق، مثل الوصف الذي يأتي في مكانه غير المناسب فيصبح مجرد حشو.

ويلعب الوهم دوراً درامياً مع الحالة النفسية لشخصية الكاتب بأناهُ المتضخمة في قصة "ظل"، مما يجعل العنوان، أي "الظل" هو البطل الذي يكتب نيابة عنه ليفاجئه بتغيير خاتمة القصة التي كانت كما يقول مجرد قصة رومانسية تصلح لأفلام الكارتون ونهاياتها السعيدة، بينما "الوهم ـ الظل" الذي ظهر كقارئ معجب بهذا الكاتب هو الذي غيّر له خاتمة القصة، وجعلها درامية مبتلة بالدموع بين الحبيبين، وهذا ما جعله يظن أن هيئة التحرير هي التي غيّرتها، فأرسل لها معاتباً ليكتشف أنها لم تفعل، فيظن بأن زوجته فعلت إلى أن يكتشف أنه القارئ المجهول الذي اخترق "كمبيوتره" وتدخّل في كل كتاباته!

وتقترب من البساطة عدة قصص، منها "سيد المفاجآت" التي تناقش حالة السحر بين الوردة والحب والخديعة، وقصة "رسالة إلى لص" التي تحكي عن علاقة من طرف واحد تحكيها بطلة القصة عن نفسها ولقائها مع ذاك المسافر المجهول الذي سرق قلبها، بتقنية رسالة حب منشورة في جريدة ما، وموجهة إليه كمجهول قد يعرف نفسه المقصود فيما لو قرأها، كونها تركت بعض العلامات التي حدثت معهما في المطار.

أمّا في قصتها "كرة صوف"، فتعتمد على فنية الخاتمة المفاجئة، وأثرها الرجعي، والأفق الخارج عن توقعات القارئ، وتميزت هذه القصة بإيقاع جمل سريع، ومشهدية حوارية بين الشخصيتين المؤنثتين الصديقتين، وكان القارئ مستمعاً لهذه الحوارية بينهما، فتحكي إحداهما للأخرى عن إعجابها بشخصية رجل صدف وأن جاءت إجراءات معاملته معها في المؤسسة التي تعمل فيها، ولكنها بدأت تبني الكثير من أوهام الحب من طرف واحد، فبنت علاقاتها مع وهمها بطريقة الإعجاب الذي لا يحتمل التأجيل، وكانت تجيب بالنفي عن أسئلة صديقتها، مثل: هل جاء لخطبتك؟

واللافت أنه بعد مرور شهر على معايشة الصديقة لهذه الأوهام، تأتي الخاتمة الفلاشباكية على لسان الصديقة المستمعة بهيئة سؤال موجّه للذات والقارئ معاً: "كيف سأخبرها أن هذا الذي تحبه هو زوجي؟".

واعتمدت القاصة العامري على هذه الثيمة في قصص عدة، منها "حمّام آدم" التي تجعل من اللعبة ولداً يحتاج لخادم ومربية بالنسبة للرجل الكبير صانع الألعاب، وكذا، تفعل في قصة "حكة" التي تنقلنا إلى عالم رسام يكتب أيضاً، يصاب بالحُمّى فيهذي، وتصبح شخصيات لوحاته أبطالاً معه، وقصة "لا جديد" التي تلتقي مع قصة "حمام آدم" في البحث عن طفل، إلا أن البطلة الدكتورة الجامعية الحاصلة على العديد من الشهادات والتكريمات، تحكي عن ذلك بتفاصيل الاعتياد اليومي لها ولزوجها الذي تكتشف في النهاية، ومن خلال صندوق الفواتير أنه السبب في عدم الإنجاب لا هي.

وتنقلنا قصة "على شفا ذاكرة" إلى عالم يعاني فيه المروي عنه من "الزهايمر"، وكيف تتألم البطلة وهي تستعيد ذاكرته وذاكرتها معه، وليتها توقفت عند السؤال: "من أنتِ؟"، ولم تضف: "فتباً لذاكرتك كم خانتك وخانتي!"، لكان أفق اللاتوقع أشدّ قوة من الناحية الفنية.

ومن قصص الحب المعتمدة على المشاعر والجسد معاً قصة "خيبة قلب" بنهايتها المأساوية التي يتخلى فيها الحبيب عن محبوبته لإصابته بمرض السرطان، ورغم وضوح أعراضه إلا أن الحبيبة لا تنتبه لذلك، بل تسأله بعد 3 سنوات لم تره فيها "أين كنت؟"!

وتنضم إلى هذه الفئة قصة "تفاصيل (حبـ)ر" التي تعمّدت القاصة كتابة العنوان بهذه الطريقة التقويسية الفاصلة لتكون كلمة "حب" و"حبر" معاً، فتبوح من خلالها البطلة عن علاقتها مع زوجها بتفاصيلها العاطفية والجسدية المكتوبة بين الواقعية والإشارية، لتخبرنا بأنها كانت تسترجع كل ذلك وزوجها قد أصبح جثة باردة في طريقها إلى الدفن.

الملاحظ تركيز القاصة على عناصر أساسية أهمها زاوية رؤية الراوي العالم بكل شيء، ضمير المتكلم الذي يجمع أنا القاصة وأنا شخصياتها، البطولة للطفولة، اللغة اليومية الواصفة، المشهدية الحياتية بين اللقطة التصويرية والمسرحية، الزمن الأفقي المتداخل مع زمن الشخصية، المكان الواقعي المتداخل مع المكانية القصصية، اللغة العادية المتداولة التي تنجو من المطبات من خلال إسقاط الحدث على جهة أخرى من الحكي، أو الاعتماد على الاسترجاع الفلاشباكي، أو الوهم، والحلم، وحضور البيئة المحلية، والاهتمام بتفاصيل التفاصيل اليومية.

ولذلك، نلاحظ غلبة البنية الحكائية على السردية، وهذا ما أوضحته القاصة فاطمة العامري في عنوانها الأخير "صرت قاصة"، لتخبر به القارئ بأنها على علم باعتمادها على بعض فنيات المفاجأة، وأهمها، كما أشرنا، الخاتمة الاسترجاعية، والانزياح عن أفق التوقعات.

ومن ناحية ثانية، تحدثت عن مشاعر القارئ، وخاطبته، متوقعة ردات فعله، إضافة لتوضيحها عن بداياتها مع القصة، وكيف كانت تميل إلى سماع الحكايات وكتابتها، خصوصاً، من عمها "غيث"، الذي شجعها منذ طفولتها لتكون قاصة، لأن "العصفورة" الحكّاءة هي السبب كما يقال في المثل الشعبي: "العصفورة أخبرتني".

التعليقات

فيديو العدد