"التشافي بالموسيقا" كتاب لعلاج الفنان والكاتب والمتلقي

"التشافي بالموسيقا"  كتاب لعلاج الفنان والكاتب والمتلقي
"التشافي بالموسيقا" كتاب لعلاج الفنان والكاتب والمتلقي

كيف لا تكون الموسيقا علاجاً معنوياً وتأملياً وهي في أعماقنا وأعماق الكون منذ ذاكرتها الأولى؟ وما هي الموسيقا التي تستغرقها دوائر العلاج للفنان والمستمع في آنٍ معاً؟ وكيف وظفها الأطباء العرب والمسلمون كأدوات في معالجة المرضى في "المارستانات/ المشافي"؟ وكيف يتمّ توظيفها المعاصر؟

حكاية الكاتبة مع الموسيقا

تجيبنا الكاتبة العازفة الدكتورة نورة صابر المزروعي في كتابها "التشافي بالموسيقا" عن العلاج بالموسيقا كفرع من فروع الطب وتاريخه عبْر الزمان، معيدة أهمية هذا الدواء المعنوي من خلال تجربتها الشخصية التي تتحدث عنها بأسلوب القصة القصيرة الواقعية، فتسترسل في الحديث عن شغفها الداخلي بالأصوات والموسيقا والبيئة الاجتماعية الخليجية المحافظة في ذاك الحين، وكيف عانت من أجل الدخول إلى مسارات الموسيقا وعزفها على آلة "القانون" التي أحبتها منذ طفولتها، وكانت تلصق عيدان المثلجات على أصابعها، وتبتكر "القانون" الخاص بها، وتجرب مع التمثيل الاستعراضي، مستغلة ذهاب والديها إلى زيارة ما، فترتدي مثل كل الطفلات ثياب أمها وتستعمل أدوات التجميل لتؤدي فقرة استعراضية، مقلّدة الأصوات التي تعرفها، لكنها كانت تواجه بالغضب من هذه البيئة من اجل الابتعاد عن عالم الموسيقا والمسرح، وكم كانت تحب أن تكبر بسرعة لتكون في المدرسة من أجل الموسيقا التي كانت تسمعها يومياً مع النشيد الوطني.

وبعدما دخلت إلى المدرسة فرحت لأن للموسيقا حصة دراسية، فتوهمت بأن معلمتها ستكون مثل الفنانة "سعاد حسني" معلمة موسيقا إيجابية، إلاّ أن الواقع نفّرها من عالم الموسيقا عندما لم تسمح لها المعلمة بلمس أية آلة من الآلات الموسيقية المدرسية، كما أن تلك الحصة كانت تمضي كما تمضي حصص الموسيقا في العالم العربي، مما دفعها للرضوخ للبيئة العائلية والاجتماعية التي تقدّر المعلمة أكثر من الموسيقية، وهذا ما جعلها تدرس من خلال منحة في أمريكا لتكمل دراستها وتنال درجة الماجستير في "التاريخ السياسي لمنطقة الخليج"، وأضافت لنفسها أن تتعلم العزف على القيثارة مع معلم خاص حيث تعرفت لأول مرة إلى "النوتة الموسيقية"، وبعد ذلك، لتكمل دراستها العلمية من خلال منحة في بريطانيا، وتتابع مواهبها في الرياضة والموسيقا، وتنضم إلى ورشة موسيقية ضربت خلالها على "الدف" فشعرت بأنها تعالج نفسها من الترسبات الماضية، وكان لهذه المشاركة دورها العلاجي كما أوضحت الكاتبة التي لم تركن للواقع بعد نيلها درجة الدكتواره في الدراسات الخليجية من معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر بالمملكة المتحدة، وممارستها للتدريس في الجامعات، بل واصلت السعي إلى حلمها، وسجلت في "بيت العود العربي" وتابعت تعلّمها العزف، خصوصاً، على آلة القانون.

رحلة الكتاب

الكتاب الصادر عن دار نينوى السورية ومجموعة أبو ظبي للثقافة والفنون "أدماف"، بدأ بكلمة هدى إبراهيم خميس مؤسس مجموعة أبو ظبي للثقافة والفنون، إضافة لكلمات كل من الموسيقار د.نصير شمّا، علي عبيد الحفيتي، مدير عام أكاديمية الفنون الجميلة، المؤلف الموسيقي إيهاب درويش، رئيس جمعية الموسيقيين الإماراتيين، الفنان خالد محمد علي، د.أحمد عبد الستار، وعبد الحليم الخطيب.

وجاء الغلاف معبّراً بسلّمه الموسيقي المتماوج مع آلة الكمان الوترية، وبألوانه الحمراء المتدرجة مع إبراز الأصفر كإيحاء للأمل والضوء والشفاء، والتضاد مع الأسود وتشكيلاته بين العلامات الموسيقية، وظهور العنوان بالأبيض المتفائل، وحضور صورة الكاتبة مع ابتسامتها وشغفها الذي حقق حلمها وهي تمسك بآلة القانون.

أمّا الرحلة في مضمونه فتتألف من (280) صفحة موزعة إلى ثلاثة فصول، الأول الموسيقا في الحضارات القديمة، ونتعرف إليها من خلال ثمانية عناوين هي: "الموسيقا في كل من بلاد الرافدين، الحضارة الفرعونية، اليونانية، الصينية، الإمبراطورية العثمانية، الهندية، الفارسية، الجزيرة العربية"، والثاني "الموسيقا في الحضارة الإسلامية" وتضمّن عنوانين عن تاريخ الموسيقا في كل من الحضارة العباسية والأندلسية، والثالث التشافي بالموسيقا في العصر الحديث، وضمّ مقدمة و(9) عناوين: "فعالية الموجات الصادرة من كل من الموسيقا، وصوت الإنسان، الموسيقا والأمراض التالية التوحد، الزهايمر، القلب، السرطان، الجهاز التنفسي، و آلات النفخ والجهاز التنفسي، القوة الشفائية للموسيقا".

ويركّز الفصل الثالث على السردية المعاصرة للموسيقا وعلمها ودورها في التشافي، وكيف يتم توظيفها لكل مرض، وما نسبتها الإيقاعية الشافية لكل حالة، علماً بأن النسبة الذهبية (1.618033) هي الأهم في الموسيقا كما الفنون الأخرى من رسم ونحت، وكيف تكون متناغمة مع القلب فيما لو كانت متناسبة مع موسيقاهُ بتردد (432) هرتز، خصوصاً الموسيقا الكلاسيكية.

والملفت أن المؤلفة تولي اهتماماً متناغماً بالعنوان "الإيحاء النفسي، تقنية التخيل، تقنية العلاج بالموسيقا"، ساردة فاعلية الإيحاء النفسي والتخيل على صحة الإنسان العقلية والعصبية والنفسية والقلبية والروحية، وهي مهمة تحتاج إلى موازنة إيجابية بين مهارة الطبيب واستجابة المريض للمساهمة في الشفاء.

"التشافي بالموسيقا"  كتاب لعلاج الفنان والكاتب والمتلقي
مكنونات مضيئة

أمّا كيف كان للموسيقا والشعر والموشحات الدور الإيجابي؟ .

فهذا ما تأخذنا الفنانة معها برحلتها إلى التفكير الروحي المتناغم لدى يعقوب ابن إسحاق الكندي، وأبو نصر محمد الفارابي، وابن سينا، وأبو بكر الرازي، وأبو فرج الأصفهاني، وفلسفة إخوان الصفا، وصفي الدين الأرموري، و"زرياب" محمد بن نافع أبو الحسن، وابن باجة، وابن عربي، وابن خلدون، وجلال الدين الرومي.

ولا بد من التقاء اللحن مع الكلمة، وهذا ما تفعله القصائد مع الأغاني، مما يساهم في الفائدة الصحية العلاجية بشكل أعمق، وكذلك، اجتماع الرموز بالرنين مثل الدائرة والنقطة، وارتباط هذه الفلسفة الفنية الثقافية بأنواع السماع، خصوصاً وأن كل شيء يسبّح بحمده، وأن "هذا العالم يسير وفق نظام وحركة موزونة، وفواصل متناسبة، فإنه بشوق وعشق يقطع المسافات ويقطع المنازل نحو مقصوده "كل في فلك يسبحون"/ ص 211"، ولذلك جاءت درجات السماع موزعة إلى أنواع، أهمها: السماع الإلهي، السماع الروحي، السماع الطبيعي، تبعاً لابن عربي، وهو تلك الموسيقا المجتمعة في قصيدة "الناي" لجلال الدين الرومي، وشوقها المتناغم مع الكون للعالم العلوي، وفي ذلك يقول: "أنصت إلى الناي يحكي حكايته، ومن ألم الفراق يبث شكايته، ومذ قطعت من الغاب، والرجال والنساء لأنيني يبكون، أريد صدراً مزقاً، مزقاً، برّحه الفراق، لأبوح له بألم الاشتياق، فكل من قطع عن أصله، دائماً، يحنّ إلى زمان وصله، وهكذا غدوت مطرباً في المحافل، أشدو للسعداء، وأنوح للبائسين، وكلٌّ يظن أنني له رفيق، ولكن أياً منهم لم يدرك حقيقة ما أنا فيه، لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن، أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟/ص224".

وتلخص في الخاتمة دور الموسيقا في التبادل الثقافي العالمي بين الشعوب والقارات والحضارات، ومدى تأثيرها في المناجاة الروحية والحياة اليومية، وكيف تداخلت الخبرات البشرية في هذا المجال إلى أن وصلت إلى إنشاء فرق موسيقية علاجية، وتشخيص الحالة الإنسانية من أجل وصف الآلة المناسبة والترددات الموسيقية المناسبة، وكيف تمّ إدراج تخصص المعالج الموسيقي في أوروبا بعد الحرب العالمية، وكيف أثبت العلم هذه التأثيرات على البنية الجسدية والروحية والنفسية للإنسان، مثل تحفيز مادة "الأنترولوجين" المحاربة للفيروسات والبكتيريا، والحامية للجهاز المناعي، إضافة لمدها لخلايا الجسم بالأوكسجين، وكيف تمت استجابة المرضى لهذه المعالجات الإيقاعية.

الإيقاعات انسجام بين الكون والذات

يحيلنا الكتاب إلى التفكير بالكثير من الغائب من هذا العالم الموسيقي الذي تحدث عنه الكثير من علماء النفس والفلاسفة وخبراء الموسيقا، وأولها استذكارنا للموسيقا الأولى التي يسمعها الجنين وهي نبضات أمه مستمدّاً منها الطمأنينة أو القلق، السعادة أو الحزن، الهدوء أو الغضب، تليها نبضات قلبه التي تنتظم تبعاً لحياته، وأي خلل في هذه النبضات يعني أن القلب بحاجة لدواء ناظم للإيقاعات سواء في حالة التسرع أو حالة القصور، وكذا للكون "وشيش" كما يقول العلماء، وللماء "خرير"، وللعصافير الزقزقة، ولأوراق الشجر حفيف، وللهواء درجات إيقاعية في الحركة تبدأ مع النسيم، وترتفع مع الرياح إلى الأعاصير.

وهذه الأصوات الطبيعية جزء من موسيقا البيئة الحياتية على هذه الأرض، وكل منها يساعد على بثّ الحالة الإيجابية من الطمأنينة والسكينة والهدوء، ويدفع إلى التفكّر والتأمل والتذكر والاستشراف، ويساهم في إبعاد الحالة السلبية عن الإنسان من خوف وقلق وارتباك.

لذلك، فإن الموسيقا المناسبة لمرحلة الصفاء الذهني والروحي والنفسي والمعرفي هي تلك الموسيقا المتناغمة مع الأعماق، المتبدّلة مع كل حالة يراها الإنسان مناسبة له، مثلاً، من الممكن الاستماع إلى الموسيقا الكلاسيكية، وللإنسان منا أن يختار من السيمفونيات ما يناسب حالته، فهنا من يرتاح مع "بحيرة البجع" لتشايكوفسكي، أو مع "القدر" لبيتهوفن، أو مع "كارمينا بورانا" لكارل أورف، أو مع "الفصول الأربعة" لأنطونيو فيفالدي، أو مع "الأغاني الراقصة" لشوبان، أو "فالس الدانوب الأزرق" ليوهان شتراوس الابن، وهناك من يحب الاستماع إلى موسيقا "الدبكة"، أو "الرقص الشرقي"، أو المقامات، أو القدود الحلبية، أو الموشحات، أو معزوفات "الناي" وتحديداً الروحي منها، أو يفضّل الاستماع إلى آلات أخرى مثل البيانو، الغيتار، العود، الكمان، لكنّ الغالبية تتفق على الاستماع والإصغاء إلى "الراعي الوحيد" للموسيقار "جورج زامفير".

الموسيقا تتساءل

جاءت الفصول أقرب إلى تأريخ الموسيقا عبْر الحضارات مع التوقف عند أهم ما وصلنا حتى الآن من أسماء موسيقيين وفنانين وأطباء وعلماء رياضيات وفلسفة وشعراء ومثقفين ومتصوفة وآلات موسيقية، وبشكل يربط بين الابتهالات والأناشيد والتراتيل والغناء الراقي الخاص بالمعابد، والآلهة القديمة، والملوك ومجالسهم، والجدير بالانتباه أن الكتاب القيّم المضاف للمكتبة العربية اختزل أهمية التوظيف العلاجي للموسيقا عبْر الأزمنة، وكاد أن يكون معجماً هاماً للأعلام والشخصيات العلمية والأدبية والفلسفية والشعرية، ومرجعاً لتأريخ الموسيقا وأساليبها العلاجية بذاكرة مرجعية عبْر الحضارات الإنسانية وصولاً للحظتنا المعاصرة، واهتمام الإمارات العربية المتحدة بهذا العلاج الفني سواء في دبي وأبو ظبي.

وكم تمنيت لو أن الكاتبة والموسيقية د.نورة المزروعي خصصت فصلاً عن الموسيقا في حضارة بلاد الشام التي ضمّنتها بشكل هامشي في الحضارة العثمانية، ولم يحضر عنوان للعصر الأموي، وليتها ذكرتْ أن أول "نوتة" مكتوبة على رقيم طيني كانت في أوغاريت السورية وهي أنشودة "نيكال" التي أنشدتها الفرقة السيمفونية السورية في إكسبو دبي 2020، كما تمنيت لو جاءت حضارة حلب الموسيقية كمحور أساسي لما لهذه المدينة من تاريخ أصيل متجذر في الموسيقا، خصوصاً، أن القدود الحلبية مسجّلة في قائمة التراث غير المادي الإنساني العالمي، وتساهم موسيقاها في معالجة الكآبة وتعديل المزاج، إضافة لموسيقا المقامات وتطورها وأثرها في الحالات النفسية الإنسانية والمجتمعية، أيضاً، هناك الموروث الشعري والموسيقي الإماراتي وأثره النفسي والاجتماعي في الذات المحلية والبيئة الاجتماعية، خصوصاً، وأن عدة عناصر من الموروث الإماراتي الثقافي الفني دخلت قائمة اليونسكو مثل "الرزفة" و"العازي" و"العيالة" و"التغرودة"، وأتوقع أنها تساهم في التشافي أيضاً.

ولذا، أتوقع أن تُصدر المؤلفة كتاباً آخر عن الموسيقا وفاعليتها الإيجابية يتضمن هذه المحاور الهامة المساهمة ثقافياً وفنياً ونفسياً واجتماعياً في عملية التشافي المعنوي من خلال الألحان والشعر والأغاني.

التعليقات

فيديو العدد