آليس ووكر .. الشاهدة السوداء في وجه التاريخ الأبيض

آليس ووكر .. الشاهدة السوداء في وجه التاريخ الأبيض
آليس ووكر .. الشاهدة السوداء في وجه التاريخ الأبيض

أبصرت المشهد من عين واحدة مفتوحة، وشهدت عليه بكرة زجاجية لا تغمض في العين الثانية، وفي رؤيتها اللامألوفة لمنظرٍ مكسور عند حافة العتمة، وثقت رحلة الإنسان الهشّ الذي ظل يسأل لماذا حدث ما حدث بين الرماد. فكتبت عن أولئك الذين لم يجدوا فرصة للسؤال حول الذنب الذي لم يقترفوه قبل أن يُقتلوا، ومنحت صوتًا للناجين الذين ظلوا يتساءلون عن معنى ما جرى.

لم تكن المرأة الأرجوانية صاحبة قلم يكتب الحكايات المنسية بل يفتح جروحها ويدعو إلى مداواتها، لتُحدق في وجع السواد من داخل التجربة الإفريقية – الأمريكية بوقتٍ لم يرحم الهشاشة ولا يمنح الإنسحاب. خرجت كلماتها محمّلة بأعين فتحتها على الحقيقة، من سرد الجماعة الذين انتزعت حياتهم وهم لا يزالون في عمر الحكاية، إلى عالمٍ بوابته لون البشرة.

ولا حد لمديح القول الذي تحته عمل في أدبها عن أفارقة أمريكا الذي أبدعته، عابرة حدود العرق من جنوب إفريقيا إلى الشمال الأمريكي، ومُتكأة على منجز زاخر تجاوز الـ35 إصدارًا بين الرواية والقصة والشعر والمقالة والوثائقي حتى كتب الأطفال، حاملة معها يدًا سوداء تكتب أن الظلم في أي مكان هو تهديد للعدالة في كل مكان؛ فما الذي رأته آليس ووكر بوضوح رغم الغشاوة؟

من يرى من؟

في طفولتها المبكرة لأصغر الأشقاء بين ثمانية إخوة وأخوات من عائلة جنوبية ودم شيروكي، استرقت السمع على صوت يصرخ وهو يقول: كان عليكِ أن تتخلصي من كل هؤلاء الأطفال! لكن كان للأم رأيًا آخر حول هذا العدد الذي سيكبر أصغره ويكون شيئًا مهمًا، فاسكتملت دخل الأسرة من خلال العمل كخادمة لـ11 ساعة يوميًا مقابل 17 دولار أسبوعيًا لتغطية نفقات دراسة التي ولدت عام 1944، ولسانها لا يتعب من التذكير بوعدها لها: سأعطيكِ آلة كاتبة...

كلما نظرت إلى عينها اليمنى التي أصابها أخوها وهو يلعب بالبندقية وأطفأت رصاصة طائشة منها ضوئها إلى الأبد، لتُراقب الناس من عينها اليُسرى دون أن تجد صديقًا لها سوى الأدب وبجانبه كتاباتها الأدبية.

بقيت تلك الكلمات تردد أصداؤها مع آليس مالسينيور ووكر، وأفسحت لها المجال أن تبدأ طريقها الأدبي. حصلت على منحة دراسية في كلية سبيلمان وهي جامعة للنساء الأمريكيات الأفريقيات في أتلانتا، وفيها انضمت إلى (Alpha Kappa Alpha) أول نادي نسائي من أصل أفريقي. ثم نالت درجة البكالوريوس بالأدب الإنجليزي في كلية سارة لورانس في ولاية نيويورك، حيث تعرفت هناك على أساليب السرد المختلفة رابطة بين التجربة الشخصية والحياة السياسية، وسط أجواء محتدمة نادت فيها بحرية المرأة من خلال التحرك النسائي.

عملت آليس بعدها مع مجلة (Sisterhood) التي استقطبت الكثير من الناشطات المدنيات، فصاغت معهن مفهوم (Womanism) أي النسوية السوداء، ليصبح من المصطلحات المحورية في دراسة الأدب النسوي الأسود، مُتجهة معه إلى إلقاء المحاضرات في جامعة ماساشوستس وجامعة كاليفورنيا وجامعة برانديز. وبين هذا وذاك ظلت عيون والدها – المزارع الفظيع – تلاحقها بنظراته السيئة، ناحية أي عمل فكري يثير عقلها نحوه.

نظرة نحو الآخر

لم تستغن ابنة ويلي لي ووكر و ميني لو تالولا غرانت عن الكتابة منذ المراحل المبكرة من حياتها الإبداعية؛ معلقة: "كان للآخرين مشكلة في اختياراتي، ومع أي شيء أفضله، كنت على الدوام أواجه المشاكل". لاسيما وأن كلمتها المفضلة هي "بغض النظر" الموجودة نفسها على لوحة ترخيصها.

أصبح مشروع ووكر الأدبي لأرشفة الذاكرة السوداء في مواجهة محو التاريخ، رمزًا لما يُعرف بـ"أدب المهمشين"، حيث تعاد صياغة التاريخ من زاوية من تم إسكاتهم عمدًا، فترى أن الأدب هو المسؤول عن حفظ الذاكرة الجماعية، حين تعجز المؤسسات الرسمية عن ذلك؛ مجسدة نوعًا نادرًا من الأدباء الذين يرفضون الأدب المحايد، ويتفقون مع موقف الكلمة، وينفرون من السكوت المتواطئ، ويؤمنون بنضالات الشعوب، تمامًا كما هو الخطاب أو اللافتة والمسيرة، تُعيد الكتابة الحق إلى أصحابه.

وقد كافحت ووكر في طريقها بالدفاع عن الحريات المدنية منذ واكبت انتفاضات السود ممثلة في ثورة مارتن لوثر كينج، التي شاهدته بعينيها ساعة ألقي القبض عليه، لتُسجن هي أيضًا إبان تلك الحركات الاحتجاجية للأقدام السوداء، دون أن يتوقف قلمها مرة في دفاعٍ واضح للحفاظ على الإرث الشفهي وأرشفة المكتوب لذرية العبيد، معتبرة أن "نسيان التاريخ هو استمرار للاستعمار ولكن بطريقة ثقافية"، وأن العدالة ليست دائمًا قرارًا سياسيًا بل عملية بطيئة من استعادة الصوت.

ويبقى الطريف أنها تعرضت لانتقادات من داخل الجماعات الأمريكية المنحدرين من الأصول الأفريقية نفسها، معتبرين أنها تحاملت على بني جلدتها واصفين إياها بالمتبرية من أصلها. لكن أعمالها عن الأفرو –أمريكيين، والمسألة العرقية في الولايات المتحدة، وماضيها في امتلاك العبيد بجنوب أفريقيا، وحالة الضعف الأكبر التي وجدت فيها النساء السود في البلد الذي ولدت فيه، لم يكن همها الوحيد.

المراقبة بعين واحدة

لم تتوقف حفيدة العبيد الأفارقة عند حدود النضال المحلي، بحثًا عن حرية لم يعشها أسلافها المضطهدون، بل اختارت أن تُعيد تعريف العدالة لا بوصفها قانونًا مجردًا أو انتصارًا في المحاكم، بل فعلاً مستمرًا من السرد وسط زحام الروايات الملفقة التي فرضها زيف التاريخ على شعوب ممحوة.

الأمريكية ابنة جورجيا التي سردت نحو الاعتراف بالعربية والإسلام كجزء من الإرث الإفريقي الحديث، مُصرة على أن "لا حرية للبعض دون حرية للجميع." ومُدينة لخطاب الكراهية بشيطنة العرب في الثقافة الغربية، خصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر، عن كيف يُصور العربي على أنه دائمًا إرهابي؛ وجدت منذ مطلع الألفية خيوطًا مشتركة، نسجت منها خطابًا أدبيًا يعيد ترتيب المفاهيم، في أن الألم الإنساني ليس حكرًا على شعبٍ دون آخر.

فيما أتى اهتمامها عن ضحايا الحروب ليس فقط بمن قُتل، فالناجون في أدبها ليسوا دائمًا المحظوظين، بل إنهم العالقون في سؤال لا جواب له: لماذا مات غيري؟ وعندما تقول الكلمة "أنا مع فلسطين"، ترى بأن الفلسطينيون يمثلون آخر حلقة في سلسلة طويلة من نزع الإنسان عن إنسانيته، لتكتب من تحديق أعينهم عن البقاء تحت الاحتلال والهوية بين الانقسام والمنفى كعقاب جماعي، ويكون حبرها للجرح الفلسطيني من رحم التجربة الإفريقية– الأمريكية، فهم جزء من السردية الكبرى للإنسانية التي دافعت عنها طوال حياتها، قائلة: "اللغة لا ينبغي أن تكون وسيلة للتبييض"؛ وفي ذلك شكّل قلمها موقفًا لا يُباع ولا يُشترى.

التعليقات

فيديو العدد