حبرها عصا وكلماتها تعاويذ: هل صَدّقَتْ جوان رولينغ خرافاتها؟

حبرها عصا وكلماتها تعاويذ: هل صَدّقَتْ جوان رولينغ خرافاتها؟
حبرها عصا وكلماتها تعاويذ: هل صَدّقَتْ جوان رولينغ خرافاتها؟

في عالم الأدب قلّما تولد أعمال تملك القدرة على أن تتجاوز الخيال وتُصبح واقعًا، لكن المرأة التي وقفت وراء العصا السحرية ولم يكن أحد يعرف عنها شيئًا حتى منتصف ثلاثينياتها من العمر، سوى أنها مرت بحياة لا يمكن وصفها بالمريحة، عاطلة تعيش بشق الأنفس على نفقة الدولة بعد عودتها إلى بلادها مُطلقة، تتنقل على طاولات المقاهي وفي فترات نوم ابنتها كانت تجمع أطراف قصتها وترافقها مقطوعات تشايكوفسكي.

نفس هذه السيدة الساحرة، تدور الأيام وتصبح رمزاً نسائياً دائم الحضور في نماذج المرأة الناجحة، من قلعتها الإسكتلندية التي بُنيت في القرن التاسع عشر، فعلت ذلك وهي تعلم بالفعل أنها تريد أن تصبح كاتبة عندما تكبر، لكن ليس عبر التأليف وحده بطريقة حديثها للإنجليزية الراقية فحسب، بل بصياغة تعويذة خرافية لتُخلدها عبر الأسطورة الحديثة.

فلم تكن الحروف في كلماتها مجرد نصوص، بل عالماً يُبنى إلى بعيد تصوغ فيه صراعًا بين الخير والشر لا يقل عمقًا عن واقعنا البشري. بحبرها الذي تحوّل إلى عصا، خطت جوان كاثلين رولينغ قصة الصبي ذي الندبة الغامضة.

طريقٌ مفروشٌ بالسحر

نشأت جو الصغيرة محاطة بالكتب، قالت: "عشتُ من أجل الكتب؛ كنتُ قارئة عادية، وأرتدي النظارات الطبية". فأرادت أن تصبح كاتبة منذ صغرها لحظة ما كتبت أول قصة لها في السادسة من عمرها عن الأرنب رابيت، وفي سن الحادية عشرة خطت روايتها الأولى التي دارت حول سبع ماسات ملعونة أصحابها.

اتسع نطاق قراءتها خارج منهجها الدراسي لدرجة أنها دفعت غرامة قدرها خمسون جنيهًا إسترلينيًا لتأخرها في تسليم كتاب بمكتبة الجامعة، حينها استفادت من اطلاعها على الدراسات الكلاسيكية لتستوحي من اللغة اللاتينية صياغة التعاويذ التي ألفتها فيما بعد.

أما على مدى السنوات الخمس التالية من عام 1990 فبدأت حبكات السلسلة السبعة التي عاشت معها لمدة سبعة عشر عامًا، بعدما احتاجت إلى قلم ولم تجده فظلت تتخيل الأحداث وتحرك الشخصيات إلى أن كتبتها بخط اليد، لتُراكم تدريجيًا مجموعة من الملاحظات كان الكثير منها مُدونًا على قصاصات مقطوعة ومُخربشًا في مناديل ورقية، وكُله مُتفرق لم يُجمعه إلا حقيبة سفر لملمتها على عجل فجاءت معها الفصول الثلاثة الأولى من النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة لساحر صغير يدرس في مدرسة السحرة.

تقول: "كنت أكتب عن مدرسة هوغوورتس في اللحظة نفسها التي توفيت فيها أمي ولم أخبرها قط عن هاري بوتر". الأمر الذي لم يعجب الناشرين كثيرًا، وعندما وجدت لها واحدًا اشترط عليها أن تستخدم الحرفين الأولين من اسمها بدلاً منه كاملاً، مبررًا أن الأطفال سينفرون من قراءة كتبتها امرأة. حتى توالت الإصدارات وحقق كل واحد منها أرقامًا تزيد عن سابقه، مما حمس المخرجين الذين دفعوا مبالغ ضخمة من سبعة أرقام، وحدثت الطفرة من هنا في أفلام الخيال العلمي بهوليوود مكونة إمبراطورية هاري بوتر من عام 2001 إلى عام 2011. لتخرج ملايين النسخ وتدخل مليارات الدولارات، وتصبح جوان رولينغ بحلول عام 2004 أول مؤلفة مليارديرة أغنتها خيالاتها.

حبرها عصا وكلماتها تعاويذ: هل صَدّقَتْ جوان رولينغ خرافاتها؟
حين يصبح الخيال وطنًا

لكن من بين كل هذه التفاصيل، ولد شيء آخر: الإيمان بقوة القصة. حفيدة كاثلين التي اختارت اسم جدتها حرفًا ثانياً للقب شهرتها، أصرت على الهروب من واقعها إلى عالم أفضل عبر خيالها، وهكذا بدأت نواة شخصية هاري بوتر تتشكل في عقلها، فهوغوورتس لم تكن مجرد مدرسة سحر، بل مكانًا يتعلم فيه القُراء عن الاختيار والتضحية والشجاعة؛ وأعظم ما فيه ليس مكنسته الطائرة أو مراياه الناطقة أو وحوشه العجيبة بل إنسانيته العميقة.

فكان اختيار الشخصيات لقدراتهم السحرية هي ما تحدد مصائرهم، وأما التعويذات فلها جذور لغوية حقيقية، بينما التاريخ السحري يتقاطع مع التاريخ البشري بطريقة محكمة لا لنعيش فيه وإنما لكي يعيش فينا.

وهنا تتجلى عبقرية ابنة بيتر جيمس، فلم تتوقف عند حدود الكِتابة مع مبيعات فاقت خمسمائة مليون نسخة محطمة أرقامًا قياسية متتالية ضمن قائمة أكثر الكتب مبيعًا في التاريخ، أو ترجمة مكتوبة وصوتية مُسجلة جابت العالم لأكثر من ثمانين لغة منطوقها مختلف، أو أفلام رائجة بُنيت عليها لتصير ضمن قائمة الأعلى دخلاً بخلاف ألعاب الفيديو والتطبيقات الإلكترونية التي اكتسحت الأسواق جنبًا إلى جنب الحدائق الترفيهية، أو دراسات أكاديمية أخذت من مفردات مثل "فولدمورت" و"أزكابان" وغيرهما جزءًا من القاموس الشعبي، حتى أطلقت جاي كاي موقعاً إلكترونياً اسمه بوترمور يحتوي على ثماني عشرة ألف كلمة من معلومات إضافية عن كل الأشياء في عالم هاري بوتر. لتخرج من بين السطور كلها حرفًا بحرف مجسدة أيقونة ثقافية مع مجتمعات من المعجبين، الملايين من القرّاء وجدوا في قصته انعكاسًا لهم بـ: "أن الهامش يمكن أن يصبح بطلاً، وأن الكلمات تملك قوة التغيير"، متحولاً إلى رمز للانتماء لجيل كامل يؤمن بأن الحقيقة تستحق النضال من أجلها، حتى في أصعب اللحظات التي لا تعرف فيها ما هو شكل مصيرك بعدها.

باسم الخوف حُرقت الكُتب

"أنا حقًا لا أؤمن بالسحر"، هذا ما قالته جيه كيه في إحدى لقاءاتها بعد أن تعرضت كتبها للحرق بالساحات العامة في عدة دول من بعض الأوساط الدينية المتشددة زاعمين أنها تروّج له، فواجهت تلك الحملات متمسكة برؤيتها الأدبية أن السحر في عالمها لم يكن طقسًا، بل رمزية للتغيير حتى النضوج. كما ذهبت عدة مرات إلى المحكمة مرة كمدعية ومرة كمدعى عليها، عندما اتهمها كتاب آخرون بالسرقة الأدبية، كما اتهمت هي غيرها من المؤلفين بخرق حقوق الملكية.

لكن بالنظر إلى التعاويذ التي يستخدمها طلاب هوغوورتس، نجد أن كل ساحر وساحرة يستخدمان اللغة البشرية للبلد الذي ولدا فيه. وعند عبقريتها اللغوية استلهمت معظم الألفاظ من اللاتينية القديمة، مما أضفى على التعاويذ طابعًا مقدسًا إضافة إلى السياق العاطفي الذي تُستخدم فيه، وجعل منها ليس فقط وسيلة لتقديم الحدث بل خريطة للقيم التي تُقاتل من أجلها؛ كأنها لغة مفقودة من عصرٍ آخر.

أصبح هناك بالفعل فهم للعملية اللغوية الكامنة وراء التعاويذ التي ابتكرتها صاحبة الكتب السبعة، فمثلاً تعويذة "إكسبيليارموس" لنزع السلاح، كانت دليل على طبيعة هاري بوتر التي ترفض القتل حتى في وجه العدو. أما تعويذة "أفادا كيدافرا" لبرودة القتل، فهي أداة للشر ولا يستطيع استخدمها إلا من تجرد من كل إنسانيته. والسحرة يتعلمون هذه اللغة كما يتعلم الطفل الأبجدية، ويخضعون لقوانين نطقها، لأن خطأٌ بسيطًا في اللفظ قد يؤدي إلى نتائج كارثية.

في عالم هاري بوتر، لا تكمن القوة في السيوف بل في الكلمات، لتعاويذ تنطلق من عصا سحرية، لكنها تُولد أولاً من نية القلب. وفي هذا تُعيدنا ج. ك. إلى جوهر الأدب: الكلمة - حين تكون صادقة-، يمكن أن تكون أقوى من أي تعويذة. وفي زمنٍ تُحرق فيه الكتب، يبقى السؤال الحقيقي: ما الذي يخيف أكثر؟ تعويذة مكتوبة أم فكرة حرة لا يمكن إخمادها؟

التعليقات

فيديو العدد