تأملات كريمة .. بين دفء الزنجبيل، ورغوة اللاتيه

تأملات كريمة .. بين دفء الزنجبيل، ورغوة اللاتيه
تأملات كريمة .. بين دفء الزنجبيل، ورغوة اللاتيه

تدفع كريمة باب المقهى برفق كمن يوقظ شيخًا مُسِنًّا من قيلولته.. ترى تقشُّر طلائه تجاعيدَ تعبٍ نبيل، وصريره أَنينَ مفاصل أنهكها الزمن. تدلفه فتستقبلها رائحة البن المعتّقة ممزوجة ببعض الزنجبيل وعبق الهيل.. تأخذ نفَسًا عميقًا وكأنها تريد لكل خلية من خلاياها أن تنعم بهذه الرائحة.. تتمتم بينها وبين نفسها: "رائحتنا نحن.. ليست رائحة غريبة". تجيل النظر في أرجائه.. الطاولات الخشبية العتيقة، المقاعد التي تُصدر صوتًا خفيفًا عند تحريكها، فناجين الشاي ذات الحوافّ المذهبة التي تشبه أطراف الحكايات القديمة.. كل هذا يعطي المقهى قيمة كبيرة في نفسها.. الزمن هو الأثمن دائمًا.. وهو الذي لا يمكن لشيء تعويضه.

تختار طاولتها المعتادة بجانب النافذة، وتطلب دون تردد: زنجبيل بالحليب، ولقيمات ساخنة بالعسل، وتترك ابنها يختار طلبه.. تُطيل النظر حولها وتتساءل: لمَ قلّ مرتادو المكان؟ وتتذكر حديثًا دار مع صديقتها مؤخَّرًا، حيث طلبت منها تجربة ماتشا اللاتيه بـ.. لم تستطع كريمة حتى تذكّر الاسم، وحين أعلنت لصديقتها أنها لا تحب هذا المشروب، وأنها تفضِّل شراب الزنجبيل.. ضحكت صديقتها بقوة، وهي تصفها بأنها "دقّة قديمة" وعليها أن تواكب العصر.. لم تستطع أن تفهم ما المشكلة إن كانت تحبّ اللقيمات أكثر من التشيز كيك؟ وكيف يمكن أن يعني التطوّر أن أحبّ الكولد برو بالموكا البيضاء بدلًا من السحلب؟ أم هل باتت البسبوسة أمرًا مخجِلًا بجانب كعكة الفستق بالبروفيترول؟

تُخرج دفترها الصغير وتكتب: "متى أصبحت البساطة تهمة، ولماذا علينا أن نتزين بكل شيء.. حتى مشروباتنا وطعامنا؟"

ترفع عينيها وتتأمل المنظر من نافذتها.. التي تُطلّ على مقهى آخر.. مقهى عصريّ يناسب صديقتها تلك.. لا بدّ أن يكون له اسم منمَّقٌ بعناية.. اسم أجنبي، تحتار كثيرًا حتى تنطقه بالشكل الصحيح، ثم لا تعرف معناه.. لا بدّ أن تُزيَّن القهوة برغوة اللافندر.. وتقدَّم الحلويات كلوحات فنية مُعدّة للكاميرا أكثر من اللسان.

أليس المفترض أن المقهى هو ذلك المكان الذي نذهب فيه لنكون على طبيعتنا؟ لنكون "نحن" ببساطة؟ المكان الذي نلجأ إليه لنشعر ببعض الراحة من ضغوط الحياة؟ كيف حوّلناه إلى مصدر آخر للضغط الاجتماعي والتمظهر!

تتأمّل جوّ ذلك المقهى.. ترى شابة تُخرج هاتفها.. تجتهد في التقاط صورة لمشروبها "الترندي" بعناية ليظهر مثاليًّا.. تتركه على الطاولة دون أن تمسّه، وتنشغل بتعديل الصورة ونشرها.. صارت حياتنا تُعدّ لعيون الغرباء، وليس لنعيشها.. لا يؤلمها التغيير أبدًا.. بل يؤلمها حين يكون سباقًا محمومًا دون أن نمنح الآخرين فرصةَ الاختيار.

مازالت تتأمل تلك الفتاة التي بقيت فترة طويلة منشغلةً بهاتفها والصورة التي التقطتها عن صديقتها التي تجاورها.. جلسة صامتة رغم ضجيجها البصريّ، وحوار باهت لا يشبه حماس اللقاءات.. تتذكر كيف كانت جلستها مع صديقاتها، ذلك الفرح الصاخب الذي كنّ يشعرن معه أنهن يحلقن في السماء.. تتداخل أصواتهن وكأنهن في سباق مع الزمن ليستثمرن كل لحظة من اجتماعهن الجميل.. يوقظها صوتٌ من داخل المقهى.. ضحكة رجلٍ مُسنّ يتحدث بحماس مع صديقه وهو يرشف شايه المُنعنع.. تبتسم.. لم يُرهق نفسه بصورته أمام الآخرين، إنه يعيش حياته هو.. ببساطة!

تسرح وهي تقارن بين شرابها وشراب ابنها.. ما بين حرارة الزنجبيل التي تبثّ الدفء في عروقها، ورغوة اللاتيه المخادعة التي لا تلبث أن تصير لا شيء.. ثم ترفع نظرها إلى ابنها الجالس بجوارها.. لم تفارق عيناه تلك النافذة، لا شكّ أنه يرغب في أن يكون في المقهى المقابل، وإن لم يُصرِّح، أو حتى يخجل من ذكر اسم هذا المقهى أمام أصدقائه.

تغلق دفترها وتفكّر.. التحدي تغيَّر الآن، لم يعد فقط في تربية طفل.. بل في مراهق يبحث عن ذاته وسط ضجيج المظاهر. لكنها تشعر بالطمأنينة؛ لأن بداخله جذورًا قوية، زُرعت فيه مذ كان صغيرًا.. تأمل فقط أن تبقى هذه الجذور حية، مهما تغيّرت الظروف في الخارج.

تفتح معه حوارًا حول هذا الأمر.. يسأل: "هل معنى هذا أننا لا يجب أن نجرب الجديد؟" تجيبه: أبدًا.. جرّب واتخذ أي خيارٍ.. ولكن تأكد أن تختار ما يعجب ذائقتك، لا ما يفرضه عليك الآخرون.. هذه هي النقطة الأهمّ".

يرتفع حاجباه في انبهار: نعم! هذه هي النقطة التي نغفل عنها.. شكرًا يا أمي.

يُنهيان الرشفة الأخيرة من مشروبهما وينهضان.. يمسك يدها بامتنان.. تبتسم وتغمض عينيها لثوانٍ قليلة.. متأكدةً أن ما يبدو عابرًا.. قد يكون هو المحدِّد لبوصلة حياةِ إنسانٍ آخر.

التعليقات

فيديو العدد