يوميات امرأة مسنة .. ونس
العدد 163 - 2025
منذ أن تفتّحت عيناي على الدنيا، ولامست براءتي قسوتها، وحتى هذه اللحظة، لا أذكر أنني خطّطت لشيءٍ ما. كلّ المواقف التي مرّت بي، مهما عظمت، كانت وليدة العشوائية التي لا يعلم أحد غيري أنّ حياتي نموذجٌ لها. فقد تقودني رؤي ما لسنوات طويلة، وتدفعني إلى طريقٍ مبهم، لمجرّد أنّني فسّرت تلك الرؤيا بما يقودني إلى ذلك الطريق.
واليوم، وأنا أتّخذ قرارًا مهمًا بالعودة إلى الوطن وأحزم أمتعتي، أجد شيئًا داخليًا ــ لا أعرف مصدره ــ يحثّني على العودة ويصرخ بي متسائلًا: لِمَ البقاء هنا؟! لم يعد بالإمكان تجاهل ذلك الصوت. فأستجيب دون نقاش، وأمضي بالسرعة والقوّة نفسيهما، لكن في الاتجاه المعاكس الذي دفعني إلى الهروب إلى هنا.
لستُ متيقّنة من مدى تضرّر من حولي أو تأثّرهم بتلك القرارات، غير أنّني كنتُ أفعل دومًا ما يجب عليّ فعله تجاه الآخرين، وأطوّع طريقي ليصبّ في صالحهم ولو على المدى البعيد. فتلك مسؤوليّتي تجاه من أحبّ. أمّا طريق الفن، فكنتُ أراه أيضًا مسؤوليّة كبرى، وهبةً من الله تستحقّ العناية والتقدير.
هذه الأيّام، تتآمر الأفكار والظروف معًا، وأجدني مقتنعةً مسلّمةً بقرار العودة، لا يؤرّقني سوى ذلك الكمّ الكبير من اللوحات المتناثرة في أماكن عدّة. كيف أجمعها وأعود بها إلى وطني سالمة، دون أن تتعرّض للسرقة أو الإهمال؟! تمرّ أمام عيني لوحاتي الغالية، قطعٌ من روحي وقلبي، أتذكّر أين رسمتُها، وظروفها، وحكايتها... ويُرعبني احتمال تعرّضها للتمزّق بسبب سوء ظروف النقل، فمَن يُحيطون بعمليّات الشحن ليسوا دائمًا مؤهّلين للتعامل مع مثل هذه الأمور الدقيقة.
التجأتُ إلى صديقي الأردني أبو سامر ليساعدني في جمع لوحاتي. فبعضها في المركز الثقافي الروسي، وبعضها ما زال في معرض النادي الثقافي العربي الذي ينتهي بعد أيّام، أما أكثرها فأوقن أنّها لم تغادر سيّارة السفير المصري منذ عدّة أشهر، في سبيل الإعداد لمعرضٍ جماعي.
وعدني أبو سامر بأن يُتمّ هذه العملية في غضون يومٍ أو يومين، بل ورشّح لي عدّة شركات للشحن، على أن أتواصل معها جميعًا لأختار الأنسب من حيث الأمان والتكلفة. واخترت من بينها الشركة التي اعتقدت أنها الأفضل، إذ أرسلوا لي مندوبهم ليتسلّم اللوحات، ويأخذ عنواني في كازابلانكا، فأتحرّر من عبءٍ ثقيلٍ كان جاثمًا على كاهلي.
الآن، بعد أن بلغت السبعين، يشتعل رأسي بالأفكار، وتضطرم روحي بالمشروعات التي أودّ خوضها. الكتابة أحدها. نعم، أودّ أن أكتب رحلتي؛ فهناك أشياء ومشاعر لا تستطيع الألوان التعبير عنها، ولا تقوى اللوحات على قولها. أنين وصراخ يملآن صدري، أعجز عن التعبير عنهما بالرسم، فأودّ أن أنفثهما على الورق. من يدري؟! لعلّ الأيام تتفتّح عن كاتبة جديدة في السبعين. أليس طاغور نفسه بدأ الرسم في الثمانين؟! لقد فعلها، وأنا أستطيع أن أبدأ الكتابة في السبعين.
قفزت إلى ذهني موضوعات طاغور ورسومه الجبّارة، فقارنتها بلوحاتي وموضوعاتي التي تحمل آثار غربتي ومقاومةً لها. عشرات اللوحات رسمتها هنا منذ فراري من الدار البيضاء، وعشرات غيرها كنت أحملها من وطني كلّما سافرتُ لأيّ سبب، وكأنني أخطّط للبقاء هنا إلى ما لا نهاية.
وبينما أنا غارقة في أفكاري، اتّصل بي السفير المصري قائلًا:
ــ أرسلتُ لك عبر الواتساب، لكن ردّك تأخّر. هل يناسبك الخميس القادم موعدًا للافتتاح؟ سيستمر المعرض أسبوعًا حتى الخميس التالي.
أجبته معتذرة:
ــ عذرًا، سعادة السفير، لم أرَ رسالتك بعد. لكنني أعتذر عن المشاركة في المعرض. اسمح لي، سيمرّ صديقٌ لي لأخذ لوحاتي، فأنا عائدة قريبًا إلى المغرب.
قلت ذلك بفرنسية ممتلئة بالحنين، فردّ عليّ بفرنسية مماثلة تحمل دهشة المفاجأة. وأغلقنا الخطّ في صمتٍ ثقيل. كان ينتظر حماسي المعهود، فإذا به يواجه انسلاخًا كاملًا من الطموحات والأمنيات التي خطّطنا لها معًا.
لم يبقَ غير المركز الثقافي الروسي، إذ لم أحاسبهم بعد على اللوحات المبيعة وعائدات المعرض.
اليوم اتّصلتُ بأصدقائي، فقد عزمتُ على لقائهم يومًا قبل سفري. أظنّني سأهدي بعض أعمالي لهم. تلفّتُّ حولي، فلم يبقَ في غرفتي سوى لوحات قليلة عليَّ أن ألفّها في رولات، لأضع حدًّا للحظات التردّد والشجن، وأغلق باب الهواجس التي تجرّني إلى فكرة البقاء بلا مواربة.
لمعت في وجهي عينا فتاتي السمراء في لوحة المرأة الإفريقية: قامتُها السامقة تقاوم جاذبية الأرض، نظرتها الطامحة يعلوها انكسار نبيل، وتفرّدٌ لا يلمسه سواها من الرائين. حاولت أن أعيدها إلى مكانها بجوار المرآة، حتى لا تغيب عني في لحظاتي الأخيرة. وهناك تراءت لي المرأة العجوز المشاغبة، وقد صبغت شعرها الكستنائي بعدما تخلّت عن بياضه الهائش، وانشغلت بتلوين شفتيها بالقرمزي الذي يشبه "الإيشارب" الملتفّ حول عنقها. بدت أنيقة، جذّابة، وكأنها على موعدٍ غرامي. فجأةً أيقنتُ أنني بجوارها أنا العجوز، لا هي. رمقتني بنظرةٍ غير مبالية، ثم انصرفت إلى حالها.
كان عليّ أن أبحث عن طيرانٍ مناسب، فإذا بالهاتف يرنّ، ويظهر على شاشته اسمها.
يا الله! ماذا أقول لها؟ لا أريد أن تنهار مقاومتي. لا أريد أن أردّ على تلك المرأة… المرأة التي أيقظت في داخلي شعور الوطن بعد غربةٍ امتدّت عشرة أعوام، المرأة التي أحببتها منذ لقائنا القدري الأول والوحيد.
كيف استطاعت أن تتوغّل في أعماقي إلى هذا الحد، حتى غدا من الصعب أن أعود إلى نفسي قبل لقائها؟! حدّثتُها عن كل شيء… بكيت أمامها، اعترفتُ لها بهزائمي وخيباتي، وكأنّنا كُنّا على موعد مع البكاء، أنا وهي. لقد لمستُ صدقها وهي تحدّثني عن وطنها سوريا، واستشعرتُ ارتباطها بي من دقّة حكاياتها، ومن دموعها النابضة بالألم والحنين.
بعد تردّد، أجبتها. فجاءني صوتها قافزًا، مرحًا:
ــ أين أنت؟ متى نلتقي؟ بعد ساعة، هل يناسبك؟
تردّدتُ لحظة. لم أرغب أن أصدمها بحديثي عن العودة، فيما صداقتنا لم تزل مجرّد بذرة طيبة، متشوّقة، تكاد تقفز من الهاتف.
قلتُ بهدوء:
ــ بعد ساعة؟! كيف؟ ستأتين من رأس الخيمة إلى الشارقة في ساعة واحدة؟!
أخذتني بلباقتها وذكائها، تحدثت وصمتّت، ثم عادت لتتحدث. كانت مختلفة عن كلّ اللواتي جمعني بهن حوار أو جوار. حبوبة، معتدلة، لطيفة الروح… كانت ونَس فعلًا.
طالت مكالمتنا. استمعتُ إلى بعض أشعارها، وأحاديثها عن أهم رواياتها.
مرّت ساعة أو أكثر، ونسيت أن أخبرها عن قراري. بينما كانت تحكي لي عن آمالها في عملٍ مشترك، وندوات تجمعنا على منصة واحدة، كنتُ أنا مشغولةً بقراري بالفرار الثاني. كيف أصدمها؟! علاقتنا بدأت للتوّ، وقد تعلّقت بي، وبدأتُ أنا أشعر نحوها بمسؤوليّة كأنها ابنتي… رغم أن عمرينا متقاربان، بل هي تكبرني قليلًا.
لم أستطع الاستمرار في المكالمة. خانتني عبراتي، فلم أَعِدها بمعاودة الاتصال. تعلّلتُ بأنني في أحد المولات، وأغلقت الخط، وتركتني لحيرتي.
التعليقات