خلف النافذة
العدد 162 - 2025
ألقيتُ بنفسي المرهَقة على مقعد سيارة الأجرة الخلفي، بعد ساعاتٍ أربعٍ في المطار، أعاني انتظارَ إجراءات شرطة المطارِ على أمل استعادة هاتفي المفقودِ هناك، أربعُ ساعاتٍ وأنا أجلس على كرسيٍّ في غرفة أنيقة مجهَّزة برُكنِ قهوةٍ وعصائرَ ومخبوزاتٍ شهية يُضفي مُناخًا من الرفاهية والدفء، مع محاولت الشرطية لتَهوينِ الموقف وبَشاشَتِها الصَّبوحة، كما لاحظتُ حركةً دقيقة هادئة للجميع ولإدارة الموقف، بعدما تسلَّمَتِ النقيب هُوِيَّتي جاءني رئيسُ المكتب مُرحِّبًا بي، وفي حوار قصير عَرَفَ حكايتي وكم معرضٍ وكم لوحةٍ تقريبًا لديّ.. وهواياتي الأخرى مِن طباعة النسيج وتصميم الملابس، وكانت تلك بذرةَ المحبةِ لسَنَدٍ مهمٍّ لي على هذه الأرض كما اتَّضحَ لي فيما بعد، لقربه من عالم الفن.
مواقفُ لطيفةٌ التقطتُها.. من متابعةٍ للكاميرات واتصالاتٍ تتصاعدُ، وانتهت الساعات بإعادة الموبايل لي مع ابتسامة عريضة وشُكري لرجالِ وسيداتِ الشرطة، وبلهفةِ الغريق رُحت أقلِّبُ في الهاتف مذهولة، فيما ذاكرتي تقلِّب الصور.
قرأتُ للمرأة الطيبة أمامي الورقةَ المكتوب فيها العنوانُ بلغة عربية فلم تفهمني، حاولت أن أُبَيِّن لها بطريقة أخرى لكنها لم تفهم الإنجليزية أيضًا؛ أربكتني، وأخيرًا اتصلتُ بصاحبة السكن بتطبيق (بوتيم)، فعاتَبَتْني بعصبيةٍ عجيبةٍ متعلِّلة بأنها انتظرتني في موعد وصول الطائرةِ في السادسةِ والنصف صباحًا، وجدتُ نفسي مضطرةً إلى أن أحكيَ لها حادث المطار، رغم محاولاتي للتهرُّبِ من التفاصيل.. أَبَتْ إلا أن تستمعَ في إلحاحٍ عجيب، ولولا تهرُّبي بلباقة لاستمرت المكالمةُ إلى ما شاء الله، حين قاطعتُها قائلةً لها:
- حبيبتي.. سنتحدث طويلًا عند وصولي.
قالت:
- أمل، اسمي أمل...
ووصلَ إلى عقلي إنذارٌ من نوعيَّة مُتعبةٍ من الناس، كثيرة الكلام والفضول، «يا االله! مع من سأسكن؟!». أخيرًا توقفت ملاحقتُها لي، لأعطيَ الهاتفَ للسائقة لتحادثها، فتبادَلَتَا حوارًا قصيرًا بلُغةٍ عجيبة لا أعلم إن كانت هندية أو غيرها، استمعتُ إلى مزيجٍ من العربية والإنجليزية ولغات أخرى لم أتبيَّنْها بعد، المهم أني أخيرًا أغمضتُ عَيْنيَّ، ألتمس الهدوء وبعض الراحة.
وانطلقت السيارة، في طرق هادئة وجميلة تغطيها المساحات الخضراء المزينة بأنواع شتَّى من الأزهار، وابتسمتُ لقراءة: «ابتسِم أنت في الشارقة»؛ لمستني تلك الرسالةُ والألوان، وشعرت بربيعٍ ممتدٍّ حولي وبادرةُ خيرٍ مسحت على قلبي المضطرب. أسلمت نفسي إلى السكينة لأول مرة منذ مغادرتي أرض الوطن.
وأنا بين الصحو والنعاس راحت صورٌ تطاردني، ودقَّاتٌ على باب غرفتي وصراخٌ عالٍ أُجَاهِدُ لينخفضَ صوته، يرجفني الصوت العالي ويُزلزل كِياني فأقع على الأرض غائبةً عن وعيي، ويهرُب هو إلى الدور العلوي من الفيلَّا...واستتقيظت مذعورة من حلمي هذا على صوت السائقة تؤكد لي وصولنا لوجهتنا.
واستقبلتني سيدة بشوشة رجَّحتُ أنها هي أمل، امرأةٌ في الأربعينيات من عمرها، أسرعَتْ وسحبت يدي إلى غرفتي، وفي صمتِ المُنهَكِ المغلوبِ على أمره دخلتُ الغرفة دون شغف، وهي بجواري تدلني على كل شي فيها: كيف نفتح شاشة التلفزيون والتكييف و«البراد» حسب كلامها، وهنا فقط استوقفتني لهجتُها، فسألتها من أي مكان هي، فقالت إنها إسكندرانية من مصر، قالت وهي تضحك:
- حين تعيشين هنا..ستتعلمين العديد من اللغات واللهجات...
وقفتُ خلف النافذة أنظر إلى لا شيء، فكلما تُهت جئتُ إليها، أو كلما جئت إليها غرقت في الذكريات.. تتداعى الذكريات فيما أُبعِدُ الصور الحزينة عن قلبي وعقلي، فلا أريد أن تترك في نفسي ما يشبه الندوب، أحدِّثُني بأن الرحلة كلها كانت اختيارًا منذ اليوم الأول فلم أكن مضطرة إلى تلك الغربة، لكن هل يهوِّن ذلك ما حدث في عشر سنوات من الغربة ومجابهة المجهول والتعامل مع البشر الذين قضيت سنوات عمري أفر منهم؟ مكتفية الآن بالحديث معهم من خلف نافذة.
مَرَّتْ سنواتٌ عشرة في غُربتي وأنا أتنقَّل بين سكن وآخر باحثةً عن نفسي، عن راحتي، آملةً أن أجِدَ الأُنس الذي لم أجِدْهُ في بيتي وبين أولادي، أيُّ سخف ومفارقةٍ تلك وأيُّ منطق؟! عشتُها متردِّدةً بين السكن المستقلٍ والصبر ومعاناة الوَحدة والقلق، وبين السكن المشترك واحتمال اختلاف طبائع البشر وغَرائِبِهم. وكيف صبرت على كل ذلك التداخُل في العَلاقات وفي الخصوصيات والفضول وهدم الفروق والحواجز لا أدري!
علا صوتُ أفكاري خارجًا من فمي دون أن أنتبه، استدعى ذلك المرأة العجوز ذات الشعر الهائش الأبيض الذي صبغته مؤخرًا فصارت أجمل كثيرًا، تلك التي تعودتُ حِوارها ومناقشاتها الحادة معي منذ سنوات، تظهر كثيرًا في ثوب عِتاب وقلق، تعاتبني على كل شيء: مَرَضِها وقلقِها ومَعارضَ فنيةٍ لم أُقِمْها في بلدي... ما لا يعجبني فيها أنها تخلط بين النفسيِّ والعملِ، ما لذلك بذا؟! لا أفهم، لكن لم تكن وحدَها هذه المرةَ؛ جاء وراءَها شبحٌ ضخمٌ أربكني اقترابُهُ الشديد مني، لتختفي المرأة، حين تأملته كان هو.. ابني وليد، قال لي غاضبًا:
- إلى متى ستبقينَ هنا؟
هذه المرة جاء صوتُهُ دافئًا رغمًا عنه.
- ابني بعدَ أيامٍ يكمل عامه الثامن يا أمي ولم يَرَكِ.
يؤكِّدُ لفظَ أمي بالعربية ويكرِّرُها، كأنه يعلم أني أحبها منه، كِدت أخبرُه أني أحزِمُ أمتعتي وأني تعِبت من غُربتي، وأني اشتقتُ إليَّ وإليهم وإلى مكتبتي، وأنني أنهكتني الرحلة، كدت أخبره عن احتياجي إليه ولإخوته والدفء بينهم، وعن رغبتي في إنهاء رحلتي معهم، في بيتنا الكبير الذي أغلَقَتْهُ السنون.
انهارَتْ مقاومتي؛ بكيتُ دون أن أنبس بكلمة.
التعليقات