المدن العربية بين العراقة والاستدامة
العدد 162 - 2025
يأتي هذا الاصدار الجديد من قبل "مؤسسة الفكر العربي" بعنوان "المدن العربية بين العراقة والاستدامة"، ليبيّن أهمية المدينة من عدة جوانب: إجتماعية– ثقافية– ديموغرافية– سياحية– وحضارية، وهي أي مؤسسة الفكر العربي، إذ تصدر هذا الكتاب للقارئ العربي فهي تدرك أهمية المدينة العربية بما تحمل من تراث فريد وثري تنبغي حمايته، ولما يفرض عليها من تحديات داهمة ومنوعة يتعين علينا جميعاً العمل الجاد والحثيث لمواجهتها.
والكتاب شامل لعدة موضوعات تتعلق بالمدينة العربية، وضعت ضمن أربعة محاور أساسية، وسنتناول هذه المحاور في قراءتنا الحالية عبر الموضوعات التي احتوتها.
يتحدث هذا المحور عن تاريخ المدينة العربية وهويتها، باستعراض خصائصها وتراثها المعماري، فالمؤرخ الاردني أ .د محمد هاشم غوشة يتناول مدينة القدس ويستعرض تاريخ هذه المدينة إعتباراً من العهدين الأيوبي والمملوكي ويتطرق إلى بناء سور القدس (1536- 1540)، ويتحدث عن أبواب القدس، باب العمود، باب الخليل، باب النبي داوود، باب الساهرة، باب حارة المغاربة، الباب الجديد، كما له حديث عن باب القدس، وأسوار القدس في القرن الأخير، ويرى أنّ القدس القديمة داخل الأسوار قد عادت لتزدهر من جديد في الفترة ما بين 1949 حتى 1967، وأنّ المدينة شهدت عصرها الذهبي، إذ امتد العمران إلى خارج الأسوار، وتحولت القدس إلى مدينة عصرية لها مطار دولي أقيم على أراضي قرية قلندية شمالي القدس، وفنادق فاخرة، ومؤسسات صحفية وإعلامية كبيرة ومستشفيات حديثة، وبلدية عصرية عملت بجد على نهضة المدينة وإزدهارها وتطورها عمرانياً وحضارياً وفكرياً بدعم من الحكومة الأردنية التي جعلت من القدس عاصمة دينية للمملكة الأردنية الهاشمية.
أما حسونة المصباحي فيستعيد رونق مدينة القيروان التونسية وأمجادها القديمة وأيامها الزاهية من خلال أضرحتها وأساطيرها وأسواقها وزرابيها ذات الألوان المتشابكة والمتداخلة التي تنسجها أغلب القيروانيات بمهارة، ويصحبنا كذلك إلى أهم معلم تاريخي في المدينة وهو فسقية الأغالبة الذين حكموا أفريقية خلال القرن التاسع، وازدهرت في عهدهم العلوم والآداب والفنون ازدهاراً لم يسبق له مثيل.
ولا يفوت المصباحي أن يحدثنا عن مدينة مراكش المغربية فهي الملقبة ب "المدينة الحمراء" ذات الأجواء السحرية الخارقة، قاومت التمدن الزائف، وحفظت طرازها المعماري ومعالمها التي يروي كل معلم منها فصلاً من تاريخ المدينة.
أما ناديا لانزون وهي مستعربة مالطية فتكتب عن مدينة باليرمو للبحث في آثارها وتجلياتها العربية، وذلك نظراً لحضور العرب الطاغي والبارز الذي استمر في جزيرة صقلية بعد إنتهاء سيطرتهم في العام 1091 م.
لانزون في دراستها الموثقة توقفت عند المعالم الفيزيقية للمدينة وتراثها المعماري والهندسي العربي المتمثل في قصورها ولا سيما قصر "دي نورماني" وقصر "العزيزة" وقصر "القبة" وقصر "الفوّارة" وكاتدرائيتها التي شيّدت في المكان الذي كان يقوم فيه مسجد كبير يعود بناؤه إلى القرن التاسع.
ويكتب في هذا المحور خمسة باحثين، د. مسعود ضاهر يكتب عن "المدن الكوسموبوليتية واقعها ومآلاتها"
يرصد د. ضاهر الطابع الكوسموبوليتي الذي ميّز عدداً من المدن العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، أي منذ انخراطها في الحداثة، ومتنقلاً بنا إلى ما طرأ عليها في أزمنة لاحقة من تحولات وتغيرات كان بعضها مفصلياً وحاسماً في مسارات هذه المدينة العربية أو تلك (الاسكندرية – بيروت– الدار البيضاء)
أما الدكتورة حُسن عبود فقد خصصت موضوعاً عن مدينة "بورسعيد"، وتصف المدينة بالقول "في بورسعيد تلك المدينة الصاعدة نحو الحداثة والكوسموبوليتانية، تلاقى الغرب مع الذوق المحلي في أبهى حلله، وتزاوج الآرت ديكو الغربي بالروافد الفرعونية، فكان أكثر من تلاقح، لكونه لم ينجب فناً هجيناً كما حدث مع الأساليب الغربية والمعربة، بل أورد مفرداته ليتبناها الغرب ويجعل منها مكونات أساسية، باتت في صلب ميزات تصميم أسلوب الآرت ديكو.
الدراسة الثالثة في هذا المحور للدكتور زهير هواري، يتتبع د. هواري تاريخ مدينة بيروت منذ أن كانت أشبه ببلدة ساحلية تعيش على تجارة البحر، وبعض الزراعات والحرف وتحكمها ثناية الحرب والبحر، الحرب في الداخل، وعليها من الخارج، مزنرة بمعادلة متفجرة ليتبين أنّ بيروت كانت على الدوام أشبه بمرجل تغلي فيه مختلف القضايا القومية والوطنية والاجتماعية، وأنّ اندلاع الحرب الأهلية في العام 1975 كان تتويجاً لحروب سابقة لم تكن قد اتخذت مداها بعد.
ولا يغيب عن الباحث الحديث عن الحدث المشؤوم في بيروت ألا وهو انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 الذي هو تكثيف للثنائية المترعة بالدماء والزجاج المتناثر والشرفات الممزقة والخراب المقيم معطوفاً على قرار المغالبة على النهوض دوماً بعد حدث التدمير.
الدراسة الرابعة ضمن هذا المحور كتبها عبد الرحمن رشيق عن الواقع الحضري في البلدان العربية، اختار رشيق الدار البيضاء إنموذجاً عن التباين الكبير القائم في سيرورة العمران والتمدن هذه، فقد باتت هذه المدينة الكوسموبوليتية إنموذجاً مغاربياً وعربياً عن مدن افتقرت إلى الدور الفعال للدولة في تصميم المدن أو في سيرورة التمدن وصيرورته بعامة، ما أخضع التمدين فيها إلى ديناميتها الداخلية، وأخضع التطور العمراني كذلك إلى "عمران استعجالي" نتيجة الأحداث والضغوط الاجتماعية ليس إلا، فعانت الدار البيضاء من صعوبة التعايش بين فئاتها الاجتماعية نتيجة التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء وبين أحياء الأبراج العاجية وأحياء الصفيح.
وفي السياق نفسه عالجت د. حلا نوفل العلاقة بين النمو المديني والهجرة الداخلية في المنطقة العربية، حيث جاءت وتيرة التمدين التي انطلقت منذ منتصف القرن الماضي أسرع بمرتين إلى خمس مرات مما كانت عليه أثناء التطور الصناعي لأوروبا ، وقد استمرت هذه الحركة لأكثر من ثلاثين عاماً ، واجتمعت معها ثلاثة عوامل لانتاج الزيادة في عدد سكان المدن وهي: النمو الطبيعي للسكان، توسيع الولاية الإدارية للمدن، والهجرة من الريف.
يكتب في هذا المحور الباحث أسامة عبد الله الصايغ موضوعاً بعنوان "نحو المدن العربية الذكية والمستدامة".
يتوقف الباحث الصايغ عند بعض نماذج المدن الذكية مثل مدينة "مصدر" ومبادرة "دبي الذكية" في الإمارات العربية المتحدة ومدينة "ذا لاين" في المملكة العربية السعودية ومدينة "لوسيل" في قطر، فضلاً عن مناطق حضرية رقمية ذكية أخرى في المملكة الأردنية الهاشمية ومصر، كاشفاً في جولته هذه عن التحديات التي يواجهها العالم العربي على صعيد إنشاء المدن الذكية.
وتكتب د . أميرة الحسن عن مفهوم المدن الخضراء الذي يستند إلى ثلاثة أهداف استراتيجية تشمل تحقيق كل من الأمن الغذائي والأمن الاجتماعي وأمن الطاقة المتمثل بالاستثمار بالطاقة المتجددة بوصفها أهداف منبثقة عن هدف التنمية المستدامة الحادي عشر، والذي يتمثل "بجعل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع وقادرة على الصمود ومستدامة" وبوصفها أيضاً أهدافا تتسق مع التوجه العالمي لوضع حد "للكارثة البيئية المقبلة ".
ويتناول الناقد والفنان التشكيلي طلال معلا مبادرة عواصم الثقافة العربية (التي بدأ تطبيقها عام 1996 بناء على اقتراح للمجموعة العربية في اليونسكو) كاشفاً عن دور المدن الثقافية في دعم قضايا الإبداع وتعزيز قيم التفاهم والتسامح وإحترام الحقوق والتنوع والخصوصيات الثقافية من جهة والتراث من جهة أخرى.
هذا المحور يتضمن أربعة أبحاث نقدية، البحث الأول بعنوان "عواصم عربية في شرق المتوسط مضى زمن الراحة" للدكتور فيصل دراج ، هذا البحث لم يغفل "السياسي" أو "السلطوي" الذي لا يمكن تهميشه، ولا تمكن قراءة الرواية العربية شكلاً ومضموناً من دونه، فإذا كان الروائي جبرا ابراهيم جبرا – كما يبين دراج – قد قرأ القدس بلغة مجازية ورأى في ألوانها المتعددة صورة عن الجنة، إذا كانت ليلى الأطرش رأت فيها مدينة دنيوية يتم التعرف إليها بأبوابها المتعددة: باب الخليل، باب محراب داوود..وغيرها، حيث لكل باب حكاية ولكل حجر قصة، فذلك للتعبير عن مدن خسرت ناسها.
أما شريف الجيار فيختار روايتي "لا أحد ينام في الاسكندرية" لإبراهيم عبد المجيد، و"زهور تأكلها النار" لأمير تاج السر، كأنموذجين عن تجليات المدينة في الرواية المصرية والسودانية، وذلك لأهمية الرواية الأولى في تجسيد مدينة الاسكندرية تجسيداً تاريخياً، أما أهمية الرواية الثانية التي تدور أحداثها في مدينة سودانية متخيلة تدعى "السور" فتكمن في سعيها إلى رصد التحولات الصادمة في هذه المدينة الكوزمو بوليتانية المؤمنة بالتعدد في ظل فكر ديني متطرف يكّفر المجتمع.
ويميز الناقد سعيد يقطين في قراءته النقدية للروايات المغاربية بين "مدينة الناس" و"ناس المدينة" كسرديتين مختلفتين، إلا أنّ ذلك لم يحجب البعد السياسي القابع خلف انتقال المدينة العتيقة من الأصالة إلى الهجانة والقابع أيضا خلف مختلف التشوهات التي تعرضت لها مدن مغاربية مثل فاس وتطوان ومراكش والدار البيضاء وتونس والقيروان والجزائر وقسنطينة وتلمسان وطرابلس وغيرها .
أما الناقد سعد البازغي فيلحظ كثافة الحضور المديني في روايات خليجية، كالحضور الكثيف للرياض في ثلاث روايات رصدت على مدى العقدين الأخيرين لثلاثة من الكتاب السعوديين هم: أميمة الخميس وعبد الله بن بخيت وبدرية البشر، أو حضور الكويت لدى إسماعيل فهد إسماعيل، وعُمان لدى جوخة الحارثي.
التعليقات