ليلى أبو العلا: زهرة أطلت وسط أشواك الغربة
العدد 164 - 2025
أغلقتْ ونسُ الخطَّ لتدفعَنِي للهوةِ التي كنتُ أتهربُ منها، ولم أشعرْ بنفسِي وأنا ألملمُ مشترياتِي سريعًا أو بطيئًا. وقفتُ أمامَ الخزينةِ مذهولةً، دفعتُ للرجلِ بطاقتِي البنكيةَ والتي حصلتُ عليها أخيرًا، وكان انتصارًا يومَ أن حصلتُ عليها؛ أذكرُ أنَّهُ لم يكنْ لي حسابٌ هنا وكانت مشكلةً كبرى أن يكونَ لي حسابٌ داخلَ الدولةِ بلا رصيدٍ، وأشارَ عليَّ صديقٌ بعملِ الحسابِ على "الإنترنت" حتى أهربَ من المبلغِ المبدئيِّ لفتحِ الحسابِ، وتلتْهَا مشكلةُ كيفَ ومن يساعدُنِي في ذلكَ، ولجأتُ إلى جارتِي في الغرفةِ المجاورةِ "الستِّ حياةَ" والتي أهديتُهَا هدية رمزية وقتَهَا ولم تكملْ لي المهمةَ غيرُ جارتي الأخرى "ريهام".
نبهَنِي "الكاشيرُ" لانتهاءِ العمليةِ وسحبتُ بطاقتِي ومشيتُ مغادرةً "السوبر ماركت" أفتحُ الكيسَ لأتممَ على حاجاتِي "صبغةُ الشعرِ الكستنائيةُ، قطنٌ للأذنِ وأيضًا لإزالةِ مساحيق التجميل"، لم يكنْ هناكَ شيءٌ مهمٌّ سوى ذلكَ اللاصقِ المهمِّ لتغليفِ اللوحاتِ والكتبِ وإحكامِ "الرولاتِ" واكتفيتُ ببكرتينِ منهُ. جمعتُ أغراضِي وعدتُ إلى غرفتِي أعلى نفسِ البنايةِ، عدتُ واحدةً أخرى غيرَ التي غادرتْ منذُ قليلٍ، عدتُ تتراءَى لي صورُ وصوتُ "زها حديد" صديقتِي العراقيةِ في لقائِنَا الأولِ والوحيدِ هناكَ في الدارِ البيضاءِ والتي ارتبطتُ بها طوالَ عمرِنَا ثم تركتْنِي وذهبتْ... واليومَ تظهرُ لي "ونسُ" بنفسِ الروحِ الأخاذةِ.
كانت علاقتِي بزها علاقةً خاصةً نشأتْ عبرَ المراسلاتِ بعدَ أن رأيتُ أولَ عملٍ لها عامَ 1990 ببرلين، ذلكَ المبنى الجميلَ، واندهشتُ في البدايةِ أنَّهُ مصممٌ ليكونَ محطةَ إطفاءٍ وتحققَ حدسِي فقد تحولَ فيمَا بعدُ إلى متحفٍ لروعةِ تصميمِهِ. في ذلكَ العامِ أو بعدَهُ كانَ اللقاءُ العابرُ والوحيدُ في برلين، لم يتعدَّ لقاؤُنَا الدقائقَ، لكن كان بذرةً فتعمقتْ علاقتُنَا حتى صرنَا بعدَ سنواتٍ مرتبطتينِ معًا في هذا العالمِ عبرَ شبكاتِ التواصلِ والتي ساعدتْنَا وقربتْنَا من بعضِنَا كثيرًا، ولو من بعدٍ بعيدٍ بالمشورةِ والرأيِ، وتداخلتْ في تفاصيلِي وكانت معي ليلَ نهارَ حتى أشارتْ عليَّ بصحبتِهَا إلى لندن والهجرةِ إلى هناكَ، لكنِّي لم أحبِّ الإنجليزيةَ دومًا، ولا أجيدُهَا، وثقافتِي العربيةَ الفرنسيةَ لا أستبدلُهَا، ويمكنُ أن تتأكدَ في بلادِي أو في مكانٍ آخرَ لكن ليسَ في لندن.. وكانت تلكَ نقطةَ خلافِنَا الوحيدةَ والقويةَ.
أشارتْ عليَّ زها لمَّا عرفتْنِي جيدًا بتركِ كلِّ شيءٍ بالهروبِ للأمامِ، وبتغييرِ المكانِ، وسمعتُهَا وكانت سفرتِي هذهِ إلى الإماراتِ.. ذكرنِي لقاءُ زها بـ"ونسَ" يومَ التقينَا لأولِ مرةٍ في معرضِ كتابِ الشارقةِ للطفلِ، كانت تتأملُ لوحاتِي المعروضةَ هناكَ في ركنِ رسومِ كتبِ الأطفالِ متسمرةً أمامَ لوحةٍ منها مبهورةً كطفلٍ يتأملُ لعبةً يريدُ اقتناءَهَا، وأهديتُهَا إيَّاهَا، متحملةً تكلفةَ إعادةِ الاتفاقِ مع الناشرِ في هذهِ اللوحةِ بالذاتِ، ووقعتُ لها عليها كادتْ تطيرُ من الفرحةِ بها، دمعتْ عينايَ وخفقَ قلبِي، ضممتُهَا إليَّ صدرِي في حضرةِ المصورينَ الذينَ التقطوا لنا الصورَ معًا، انزرعَ بقلبِي محبتُهَا فقد شعرتُ بطفولةٍ وبراءةٍ أشمُّهَا في الناسِ من بعدٍ وأظنُّهَا كذلكَ.
ومرتْ أيامٌ، تعلقتْ بي ونسُ في ذلكَ الوقتِ كمن يتمسكُ بالحياةِ بعدمَا فقدَ كلَّ أسلحتِهِ للحربِ، وبعدمَا اقتربتُ منها وجدتُنِي فعلًا كذلكَ، كنتُ أنا جيشَهَا الوحيدَ رغمَ وجودِ ابنِهَا معها، ورغمَ كونِي هنا وحدِي، لم تخجلْ ونسُ من أن تحكيَ لي عن ظروفِها القاسية والصعوبات والعقبات التي نجحت في تجاوزها حتى وصلت إلى بر الأمان هي وابنها.
كانت ونسُ بسيطةً في ملبسِهَا عاليةَ الهمةِ والعزةِ، جلسنَا معًا أطعمُهَا ممَّا أعددتُهُ بيدِي بصندوقِي الخاصِّ تمرٌ ومكسراتٌ فتأكلُ وأشعرُ بحلاوةِ التمرِ في فمِي، تأكلُ وتحكي وتتلاشى الحواجزُ بيننَا تلكَ التي يضعُهَا الفنانونَ حولَ أنفسِهِم حمايةً لهم من العامةِ وفوضى المعارفِ والناسِ، وتتكشفُ شخصياتُنَا لبعضِنَا بشكلٍ عجيبٍ.
أثارَ قربُنَا في ذلكَ اليومِ حفيظةَ زملائِنَا من الفنانينَ التشكيليينَ والكتابِ من أصدقائِي ومعارفِهَا من أعضاءِ جمعيةِ الكتابِ والفنانينَ في الشارقةِ رفاقِ رحلتِنَا للمعرضِ، أحببتُ تلكَ الأحاسيسَ الصادقةَ وإحساسٌ بالمسؤوليةِ تجاهَهَا، ولازمتْنِي ونسُ وصرتُ أحكي لها عن خبراتِي طوالَ سنواتِي الماضيةِ هنا ووعدتُهَا بالمساندةِ ومساعدتِهَا حتى تفتحَ عيادتَهَا الخاصةَ هنا ونشرِ أبحاثِهَا العلميةِ أيضًا ومؤلفاتِهَا كلِّهَا.. وأعطيتها بعض الأرقام لأشخاص توقعت أنهم قادرون على مساعدتها، وشكرتْنِي ممتنةً بشدةٍ قائلةً: "ليتنَا التقينَا من قبلُ، لكنَّهُ نصيبٌ. لو أني عرفتُكِ منذُ وصولِي هنا لكانَ أمرٌ آخرُ". فنظرتُ إليها مستفسرةً. استطردتْ: "أتمنى أن نلتقيَ ثلاثتُنَا وزيادٌ ابنِي، ستتعرفينَ عليهِ ربما يغيرُ رأيَهُ ويبقى معي فهو يفكرُ بالسفرِ لتركيا ولا أوافقُ على السفرِ معَهُ وأنا..".
انتبهتُ على طرقِ جارتِي التونسيةِ في الغرفةِ المجاورةِ، والتي تسكنُ مع توأمِهَا، في بدايةِ الأمرِ كنتُ أحسبُهُمَا واحدةً، ولكن اكتشفتُ الحقيقةَ وهيَ أنَّهُمَا توأمٌ في نفسِ الجامعةِ وقد حصلتَا على منحةِ الشيخِ سلطانِ القاسميِّ للتعليمِ في جامعةِ الفنونِ، طرقتِ البابَ إحداهنَّ "سيليا" طلبتْ مني بعضًا من مسحوقِ الغسيلِ.. وانتبهتُ لمرورِ ساعةٍ منذُ صعودِي من "السوبر ماركت"، لاحظتْ سيليا شرودِي وسألتْنِي عن السببِ ورأتْ حولِي اللوحاتِ وبعثرة محتوياتِ الدولابِ وفوضى الغرفةِ وكنتُ قد وعدتُهَا بأن أمنحَهَا بعضَ الأواني والأطباقِ التي لن أحتاجَ إليها في رحلةِ عودتِي...
انتبهتُ لمرورِ الوقتِ وإذا بالهاتفِ يرنُّ مرةً أخرى ليظهرَ اسمُ ونس.. لم أردْ، تذكرتُ أنَّهَا قالتْ لي ستتصلُ بي حينمَا يغادرُ زيادٌ ابنُهَا بيتهم، ليصحبَنِي معَهُ لها.. وكانَ هوَ الاتصالَ المتفقَ عليهِ إيذانًا لأبدأَ في رحلةٍ قصيرةٍ عبرَ أدواتِ زينتِي التي أهملتُهَا طويلًا.. وفعلًا وجدتُنِي أتزينُ بكل حماس. فضلتُ أن أرتديَ ثوبًا أسودًا أنيقًا لم أرتدِهِ من قبلُ، زينتُ أذنِيَّ وصدرِي بعقدِ وأقراطِ اللؤلؤِ وتعطرتُ بـعطر غالٍ نسيتُهُ في خزانتي لسنوات.. أعددتُ بعضَ الفاكهةِ والمكسراتِ والتمرِ، تأكدتُ من إحكامِ العلبةِ ورحتُ أقلبُ في هاتفِي باحثةً عن رقمِ ونس، في تلكَ اللحظةِ رنَّ هاتفِي لرقمٍ غريبٍ.. فجاءَنِي صوتٌ عالٍ لرجلٍ ناضجٍ مهذبٍ: "ست سلوى، أنا زيادٌ، أنتظرك أسفلَ البنايةِ / سوبر ماركت لولي". اضطربتُ كثيرًا، لا أفهمُ لِمَ، .. وعرفتُ بعدَ ذلكَ السببَ، وأنَّ اليومَ كانَ بدايةً لكثيرٍ من الأشياءِ التي لم أتوقعْهَا مطلقًا.
التعليقات