تأملات كريمة .. التضحيات القاتلة!

تأملات كريمة .. التضحيات القاتلة!
تأملات كريمة .. التضحيات القاتلة!

دفتر وشاي ساخن تتصاعد منه أبخرةٌ متموّجة مشرّبة برائحة الزنجبيل المميزة.. تأخذ كريمة نفسًا عميقًا وتبدأ جلستها التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا؛ فبداخلها الكثير من الأفكار التي تحتاج إلى ترتيب.. خاصة فيما يتعلق بأدوارها ومسؤوليتها تجاه ابنها.. لقد كبر ابنها وبدأت تحديات جديدة تنتظر منها أن تواجهها بوعيٍ وحكمة.. لا بآليةٍ وغفلة.
يلفت انتباهها رجل ستّينيّ يقترب من طاولته وهو يحمل صينيةً فيها كوبان وقطعتان من الحلوى، يتقدم بها نحو شابٍ يافع في أوائل العشرين.. واضح من الشبه أنه ابنه. يضع الأب الصينية بعناية، ثم يجلس وهو يلهث قليلًا: "أحضرت لك مشروبك المفضّل.. دون سكر، كما تحب". يردّ الابن دون أن يرفع عينيه عن هاتفه: "لماذا أتعبت نفسك؟ كان النادل سيأتي به."
يهزّ الأب كتفيه ويبتسم:
"لا يوجد تعب يا ولدي.. أحبّ أن أقدمه لك بيدي."
تتابع كريمة المشهد بصمت.. يحاول الأب -عاجزًا- أن يفتح حوارًا، يسأل عن دراسته، عن أحوال أصدقائه، عن سيارته التي أصرّ على شرائها له من مدخراته.. لكن الابن يجيب باقتضاب، بعينٍ على الشاشة، وأذنٍ نصف مصغية.
تتنهّد كريمة.. السيناريو المعتاد.. أب كرّس نفسه ليكون معمل أمنيات لأبنائه! دون أن يعلم أن ما يُقدَّم بسهولة، يُستهلَك بلا تقدير.
نتَّهمهم بالجحود، لكن هل فكّرنا أن السبب قد يكون في التضحية التي تجاوزت حدودها، في نسيان الأهل للضرورات التي يحتاجها أبناؤهم ليكونوا مسؤولين، في إهمال تعليمهم بديهيات مثل أن الحصول على الأشياء لا يأتي بمجرد التمنّي، وأن لكل شيء ثمنًا في الحياة، وأنهم ليصبحوا سعداء يجب عليهم أن يمتلكوا مهارات لا تأتي بسهولة.
نطلب منهم أن يروا تضحياتنا.. ولكن كيف وهم لم يجربوا بأنفسهم تعب الحصول عليها بمفردهم؟ كيف يشعرون بشيء لم يعيشوه؟
ترى الابن يُغلق هاتفه أخيرًا.. ويسأل:
"هل معك خمسمئة درهم؟ أحتاجها."
تتوتر ملامح الأب للحظة، لكنه سرعان ما يضع يده في جيبه دون تردّد، ويخرج ورقةً نقدية.. يعطيها له بابتسامة مُنهكة، لكنها لا تزال حانية.
يتناولها الابن دون أن يتلفظ بكلمة..
تتأمل كريمة ملامح الرجل.. تقرأ فيها تعب سنين لم تكن سهلة أبدًا، ووجهًا يعرف الطابور الطويل أمام الصراف ليصرف معاشًا بالكاد يكفي..
تأخذ رشفة من كوبها، وتفكر بابنها.. وتتساءل في صمت:
هل أنا أمهّده للحياة؟ أم أمدّ له ظهري جسرًا عند كل عثرة تواجهه؟ هل التضحية التي لا حدود لها تربي أبناء بلا حدود أيضًا؟ كم مرّةً كنت أحسب تضحيتي حبًّا.. لكني كنت أسلب منه فرصةً للنمو!
ينتشلها صوت هاتفتها من تأمّلاتها:
"ماما، نسيت أطلب منك أن تُحضري جهازي من بيت صديقي، لقد نسيته وأحتاجه اليوم."
تتوقف قليلًا.. تتأمل طلبه، قبل أن تجيب بصوت هادئ وحازم:
"حبيبي، أظن أن بإمكانك المرور للبيت وأخذه بنفسك، أليس كذلك؟".
يصمت لحظة، ثم يجيب:
"نعم.. أستطيع".
"جميل، وأنا واثقة أنك لها."
تُغلق الهاتف بابتسامة، قد يكون ما فعلته صغيرًا.. لكنها بداية حقيقية لتعديل المسار.
تفتح دفترها برفق.. وتكتب:
"نُحبّهم فنحملهم، نُحبّهم أكثر فنحمل عنهم.. ثم نُفيق وقد حملناهم حتى عن أنفسهم."
تتأمّل الشارع من خلف زجاج النافذة.. خطوات الناس تتباين: منهم من يحمل أثقاله واثقًا متماسكًا، ومنهم من يترنّح بحثًا عمّن يسنده.
تنهض وتمسك حقيبتها.. تمضي بخطى أهدأ، لكن بقلبٍ أكثر وعيًا. هي لا تزال أمًّا محبّة.. لكنها أمٌّ قررت أن تزرع في ابنها جناحين، بدل أن تحمله كلما أراد الطيران.

التعليقات

فيديو العدد