يوميات امرأة مسنة.. امرأةٌ لا أعرفها

يوميات امرأة مسنة.. امرأةٌ لا أعرفها
يوميات امرأة مسنة.. امرأةٌ لا أعرفها

مَرَّ الوقت وأنا هناك خلفَ النافذة الزجاجية أنفثُ بخار الماء فيتكاثَفُ عليها، ترتسم خطوطٌ طُولية وتتشكَّل صور حيوانات وحشية وثعابين تحجب عني رؤية ما بالخارج، الضباب يخرج من روحي فيَسُدُّ الأفق، وينقضي الليل وأنا أرقُب قمرًا غائبًا وسماءً هربت نجومها منها، أميل بجسدي فأرى محيط البناية الشاهقة والسيارات تخترق الطرق كأشباح تعوي لامعةَ العينينِ تتشبَّث بذيول الليل، هاربةً قبل طلوع الشمس التي بدأت تلامس الأسطح العالية هناك في فِعلِ مقاومةٍ مهيبٍ يهزمُ سَوداويَّةً ما. أقاوم رهبتي من الأدوار العالية فأعود بسرعة إلى وضعي الأول خلف النافذة.
تملمَلَتْ قدماي عند أذان الفجر مِن طول الوقوف، يُذَكِّرني الألم بدواء هشاشة العظام، وبدأ عقلي يدبِّر أمره مع الألم، وجسدي متخشِّبٌ كتمثال، فيما ألمحُ سجادتي على الأرض متجهةً نحو ركن الغرفة وبيدي السُّبْحَةُ، لا أذكر متى ولا كيف وَصَلَتْ إلى يدي المبلَّلة حتى المِرفَق!

في تلك اللحظة انتبهتُ -في الزجاج المُشَبَّر- لِعَيْنَيِ امرأةٍ تقف ورائي ذاتِ شعر هائشٍ أبيضَ ثلجيٍّ، ترقبني كصقر يتتبَّع فريسته، لم يعجبني التصاقها بي وتضييقُها عليَّ حركتي؛ هممتُ بالتحرك للإفلات منها فتسمَّرت قدماي، ابتسمَتْ لي ابتسامة واهنة فيما ترتب هندامها الأبيض الكِتَّاني فبَدَا عليها يُسرٌ وبعضُ امتلاء، أعجبتني نقوش وزخارف على صدر منامتها، وبُطْؤُها وهدوؤُها المُسِنَّينِ، تحرَّكَ شعوري نحوها بإشفاق، فنظرتْ إليَّ بازدراء عجيب؛ تولَّد داخلي غضبٌ لم يسمح لي بمهادنتِها، لكني صبرتُ؛ ضعفُها أثار إحساسًا داخلي بمسؤوليةٍ ما، أردتُ رفع يدي لأمسح الزجاج ليدخل الضوء جليًّا لأتبيَّنَها، فسبقتني يدها المعروقة المجعَّدة وبيدها الأخرى لملمَتْ شعرها الهائش بشريط حريريٍّ أعرفه، وظهرت أذناها تتحلَّيان بحَلَقٍ هو في الأساس لي، يا لهذه المرأة كيف تجرؤ!

لمعَتْ عيناها في امتنان رقيق ونظرنا من النافذة، في اتجاه واحد نحو ناطحات السحاب والشمس طالعةٌ بدلال ودفء تداعب عيوننا برفق، والتَفَتُّ خلفِي أحذرها من الوقوف كثيرًا هنا خشيةَ أن يصيبها الدوار، لكنها اختفت ولم أجد غيري وصوت فيروز يصدح بالمكان.

كانت الواحدةَ بعد منتصف الليل حين وطِئَتْ قدماي أرضَ المطار ليلفحني هواءٌ ساخن يُذَكِّرُني بموقعي الآن في العالم، تتحرك قدماي ببطء طفلٍ يحمل عبئًا ثقيلًا فوق ظهره، ستعتادانِ الوضعَ الجديدَ، وأحسَسْتُ بجسدي كلِّهِ كَمَكِنَةٍ تيبَّستْ على وضع الجلوس وتحتاج إلى تليين، يهمس لي القلب: «استمتعي وانسَي. أخيرًا وصلنا من كازابلانكا إلى دبي في رحلة ثماني ساعات ممتدَّة كالسنين»، أهبط درج الطائرة وحولي عشرات الأطفال العائدين مع عائلاتهم فَرِحين يقفزون كالفَرَاش بعد إجازة صيفية طويلة قَضُوهَا بين الأجداد على شواطئ الأطلسي. تحدثتُ معهم خلال الرحلة وحكيتُ لهم قصصًا وحكاياتٍ حتى مللتُ، وسمعتهم حتى كاد رأسي ينفلق، لكني كنت سعيدة بقراري الجريء بالابتعاد عن الوطن، وليتني أتمسك به، ليت قلبي يتحجَّر فأبقى هنا! تلحُّ على ذاكرتي صورٌ وخيالات تُثقِل عقلي وصورٌ مؤلمة لمواقف عديدة تأبى أن تفارقني، أحاول طردها وإبعادها بعدما هجرْتُ كلَّ ما لي هناك في المغرب، ولأترك العنان لرغبتي في الحياة واستعادة ما تبقى، وتبدأ رحلةُ هربي من موطني الحبيب وهِجرتُهُ لأول مرة.

يوميات امرأة مسنة.. امرأةٌ لا أعرفها

لم أخبر أحدًا بوجهتي، فلماذا أخبرهم؟! لا مبرر ليعرفوا ولا ضرورة إلى ذلك، هي نُدوبُ روح لن يشفيها غير الابتعاد. ربما كان قرارًا صائبًا وإن كان صعبًا، ليتني أبتعد عن الزمان أيضًا فربما أنسى سنوات عمري كلها!

اليوم، السابع من سبتمبر، عيد ميلاد ابنتي الوسطى المهندسة يارا، ستعجبها هديتي التي تركتها لها في خزانة ملابسها، ستلتقطها بمجرد عودتها من العمل، أجل.. لا بُدَّ أنها رأتها فقد وضعتُها بحيث تستقبلها بمجرد فتح ضلفة الدولاب، حَرَصتُ أن أترك كل شيء كما يحبونه مني وأنا معهم، فلا يكون غيابي مفاجئًا. تلمست أوراقي الملونة وأجندتي الورديَّة -هدية ابنتي لي- التي كتبَتْ فيها بخط يدها تذكرني بمواعيد أدوية الضغط والهشاشة والقلب والكولسترول و.. وماذا؟ مهمات كثيرة أنساها لكنْ وجَدَتْ طريقة جيدة لتذكيري.

أخرجتُ من الأوراق عنواني في الشارقة: (بناية إسطنبول التعاون - شارع التعاون - الدور السادس والأربعين).

بعد تسلُّم الحقائب وانتهاء إجراءات السفر.. لاحظ كلُّ مَن في المطار أنها المرة الأولى لي؛ عرف الصغير والكبير من كثرة أسئلتي وارتباكي الشديد، لكن ما حيلة الغريب غير الأسئلة؟! أمسكتُ الورقة بيدي ودفعتها لشرطي طيب عاوَنني وفرحت أن هناك من يتحدث لغتي، سِرت نحو الخارج في حمايته، يشغلني ماذا أعمل ولماذا لم أخبر أحدًا ممن استقبلني بحقيقة شخصيتي الفنانة التشكيلية المعروفة! وإنْ أحببتُ التنكُّر لعملٍ فماذا أعمل في هذا البلد الغريب والفن هو حرفتي الوحيدة؟! أنا أعيش من بيع اللوحات وتصميم الملابس، فهل أستطيع الاستمرار في ذلك هنا؟ ماذا لو لم تنجح أعمالي في جذب الجمهور الخليجي هنا؟ يا الله! لم أفكر في غير الهرب. لماذا أنكرتُ حقيقتي؟ هل نسيتُ؟ وقطع أفكاري صوتُ الشرطي وقد أشار إلى إحدى سيارات تاكسي المطار، فأسرَعَتْ سيدةٌ سمراءُ ترتدي زيًّا يشبه الزيَّ العسكري، استقلَّتْ سيارةَ التاكسي الضخمةً واقتربَتْ من موقعنا تلك الأمتار، ثم نزلت ورتَّبت حقائبي في السيارة.

بادرتُ بالحديث مع السائقة كعادتي في ركوب سيارات الأجرة حتى نصل إلى وجهتنا، لكنني وجدت صعوبة فلم تكن تفهم العربية أو الإنجليزية، فقط استمرَّت في طريقها بهدوء ومهارة من المطار إلى حيث وَصَفَ لها الشرطي. شعرت باطمئنان على نفسي، فها هي ذي امرأة مثلي، تعيش على هذه الأرض مطمئنَّةً وهي لا تكاد تجيد شيئًا سوى قيادة السيارات. تحسَّستُ رخصة قيادتي أتحقَّقُ من وجودها.. مَن يَدري!

التعليقات

فيديو العدد