رواية "الخنجر المرهون" لحاكم الشارقة .. درس أخلاقي لرقي الأمم
العدد 162 - 2025
تطوف رواية "الخنجر المرهون" الصادرة عن منشورات القاسمي، لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، في أرجاء الماضي الجميل، فتسرد وقائع يكتنفها التشويق والإثارة، وتسطّر أحداثًا حقيقية كانت سببًا وراء تكوين ملكة ثقافية وبناء شخصية علمية تاريخية، وتحكي مسيرة قارئ ومفكر فذ، وتروي مشاهد مليئة بالمواقف التي تختلط فيها العبر بالعبرات، وتنم عن تضحية واجتهاد، وعزيمة وإصرار، دون كلل ولا ملل، بعين ثاقبة، ورؤية واضحة، ونفس طموحة، ترسم مستقبل إنسان يرسم مستقبل أُّمة.
وتؤكد الرواية على أن سبيل رقي الأمم يكمن في تمسكها بالعلم والمعرفة، واحتفائها بالمكتبة والكتب والمبدعون، والعلماء، وهو ما يدفعها لتبوأ مكانها بين الحضارات، و للسمو بين الشعوب والثقافات.
فالخنجر الذهبي المرهون يحمل تاريخاً يحكي قصة كفاح، وذلك من خلال تناول صاحب السمو في مقالين قصة خنجره الذي رهنه مقابل 100 روبية ليشتري بها كتباً، ويؤسس مكتبته الخاصة وهو في سن صغيرة قد يغلب على تفكير من في سنه آنذاك اللعب والرياضة والهوايات الأخرى، إلا أن حب القراءة وما لمسه فيها من فائدة ومتعة وإثراء لعقله وشخصيته كانت سبباً لاتخاذه تلك الخطوة الجريئة وعدم معرفة والديه لكي لا يحول أمر دون شرائه الكتب.
والرهن عقد جائز، وهو من العقود العَينيّة التي لا تعتبر تامة الالتزام إلا بالتسليم، وهو مشروع في الحضر والسفر، والأصل في الرُّهون أن تكون بالأعيان، سواء أكانت ثابتة: كالعقار، والدُّور، والأملاك الخاصة، والمزارع، أو منقولة: كالآلات، والسيارات. ودليل مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
ويقول المؤلف في روايته: كان عمي المرحوم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، حاكم الشارقة، له مكتبة خاصة في حصن الشارقة، وأخرى في البيت الغربي، وكان والدي دائماً يأخذني معه عند زياراته الخاصة لشقيقه، الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، فكانا يلتقيان في المكتبة، سواء أكانت في الحصن أم في البيت الغربي، وقد كان وضع المكتبتين يسمح بالدخول من جهة المجالس، ومن جهة المنزل الداخلي.
في ذات مرة، من شهر يونيو عام 1948م، اجتمع والدي مع شقيقه الشيخ سلطان بن صقر في المكتبة بالبيت الغربي، وفي المجلس التابع للمكتبة، حيث تتصل المكتبة من ناحية بغرفة نوم الشيخ سلطان بن صقر، ومن الناحية الأخرى بمجلس المكتبة الذي يتصل بالمجلس العام.
بينما كان عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي يتحدث مع شقيقه، والدي، دخلت إلى المكتبة، فوجدت كتاباً مفتوحاً كان عمي يقرأ فيه، حاولت أن أقرأ من الصفحة المفتوحة حيث كان عمي يقرأ.
وقتها كان عمري تسع سنوات، وكنت أستطيع القراءة، وفجأة دخل عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ليقول لي: هذا الكتاب لا يقرأ الصغار مثلك ما فيه، والدك سيخرج.
ما هي إلا أشهر عديدة، ومرض الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ونقل إلى بومبي في الهند في شهر مايو عام 1949م.
تقرر نقل الشيخ سلطان بن صقر القاسمي إلى لندن، في الثامن من شهر فبراير عام 1951م، لكن المنية وافته في الثالث والعشرين من شهر مارس عام 1951م.
استغرق نقل الجثمان من لندن إلى الشارقة مدة من الزمن، حيث يتطلب الأمر إجراءات ومدة للسفر. اجتمع ابنا المرحوم الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وهما سالم وعبد الله، وأخي عبد العزيز وبعض أصدقائهم، في مجلس المكتبة في البيت الغربي، يلعبون الورق.
أما أنا فقد دخلت إلى المكتبة وأخذت أقرأ في الكتب؛ كان عمري يومها اثنتي عشرة سنة، وأول كتاب بدأت أقرأ فيه كتاب الحيوان للجاحظ، وكان عمي الشيخ سلطان بن صقر القاسمي على حق عندما منعني من القراءة في ذلك الكتاب.
على مدى أسبوع كامل، وأنا أنقل أسماء الكتب ومؤلفيها بعد أن أحضرت كراسة ومحبرة وقلم غط، وقد استطعت أن أنقل جميع ما كان في تلك المكتبة. معظم تلك الكتب تمّ شراؤها من مكتبة المؤيد بالبحرين. وقررت أن أؤسس مكتبة خاصة بي، وأشتري كل تلك الأعداد من الكتب.
ويقدم المؤلف للقارئ معلومة تاريخية عن مصطلح "الرهن"، فيقول: تاريخياً يعود هذا المصطلح الرهن إلى إنجلترا في العصور الوسطى، ولكن جذور هذه العقود القانونية، التي يتم بموجبها رهن الأرض مقابل دين وتصبح ملكًا للمقرض إذا لم يتم سداد القرض، تعود إلى آلاف السنين، يرجع المؤرخون أصول عقود الرهن إلى عهد الملك أرتحشستا ملك بلاد فارس، الذي حكم إيران الحديثة في القرن الخامس قبل الميلاد. وقد قامت الإمبراطورية الرومانية بإضفاء الطابع الرسمي على العملية القانونية المتمثلة في رهن الضمانات للحصول على قرض وتوثيقها.
ويتابع: أما الرهن في الإسلام فهو وثيقة لحفظ الدين الذي على الراهن، كما قال الله -جل وعلا-: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة:283] يعني بدل الشهود، وبدل الكتابة الرهن، فالرهان مال يوضع عند صاحب الدين حتى إذا تأخر الراهن عن قضاء الحق؛ يباع هذا الرهن، ويستوفى منه الدين بواسطة المحكمة، أو بالتراضي بينه وبين الراهن، فيجعل عنده مثلًا سيارة رهانه، يجعل عنده ملابس رهانه، يجعل عنده حليًا رهانه، يعطيه بيته رهانه، أرضًا رهانه، لا بأس.
ويكمل الشيخ الدكتور سلطان القاسمي روايته فيذكر: في الثاني من شهر إبريل عام 1951م، وصل جثمان الفقيد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، ليوارى التراب في مقبرة الجبيل.
على مدى سنتين، وأنا أحاول أن أجمع الكتب لتكوين مكتبتي، لكني لم أجد من يقرضني مبالغ أستطيع أن أسددها عن ذلك القرض. فأخذت أستعير الكتب ممن كانت لديه، فمنهم عبد الواحد الخاجه، الموظف ببلدية الشارقة، التي تقع على امتداد السوق ومنه إلى الجنوب، حيث الدوائر الحكومية وهي: دائرة الجمارك والميناء ومديرها عبد الرحمن بن محمد المدفع، ومبنى الإدارة العامة للشؤون المالية والإدارية ومديرها أحمد بن محمد المدفع، وبلدية الشارقة ورئيسها الشيخ محمد بن سلطان بن صقر القاسمي، ومجلس الوزير إبراهيم بن محمد المدفع.
كان مسكن عبد الواحد الخاجه في شرقي البلد، والبلدية في غربها، وكان يمر بمقهى سرباز التي كنت أجلس فيها، ومحمد بن صالح القرق الموظف في الوكالة البريطانية، والذي كان يسكن في جزء من بيت السركال قبالة مقهى سرباز، والذي كان يمر بها يومياً ذهاباً وإياباً إلى عمله، وابن عمي الشيخ صقر بن حميد القاسمي، وذات مرة وجدته جالساً على كرسي طويل أمام بيته، وكان البيت على قارعة الطريق الآتي من المسجد والسوق، وإذا به يقرأ كتاباً وعنوانه: «لا أنام» لإحسان عبد القدوس، فطلبت منه أن يعيرني ذلك الكتاب، فتعلل بأنه يقرأ فيه، فقلت له: ليلة واحدة، فوافق.
في اليوم التالي كان الشيخ صقر بن حميد القاسمي يجلس أمام بيتهم فسلمته الكتاب، فنظر إليّ مستغرباً كيف أني قرأت ذلك الكتاب الضخم وسألني: كيف انتهيت من قراءة الكتاب؟ فأجبته: الكتاب يقرأ من عنوانه.
كان ممن طلبت منهم قرضاً رجل يدعى أحمد بن إبراهيم الملا، كان قد أقام في بداية عام 1953م مقهى في مجلس بيت حسن بن عبد الرحمن المدفع، المُطل على السوق وخور الشارقة.
طلبت من أحمد بن إبراهيم الملا قرضاً من المال.
قال: اللهُ أكبر!، مئة روبية!، وأنا أبيع كوب الشاي، بآنة واحدة!، (الروبية تساوي 16 آنة).
قال أحمد الملا: ما الذي ستشتريه بهذا المبلغ؟ الخنجر الذهبي المرهون؟
ثم عاد وقال: لا يوجد معي أيّ مبلغٍ من المال!، لكن زوجتي عندها المال. انتظرني هنا
في المقهى، وسأذهب لأسألها.
كان أحمد الملا وزوجته وابنته يسكنون في منزلهم الملاصق لبيت حسن بن عبد الرحمن المدفع. ما هي إلا دقائق معدودة وإذا بأحمد الملا قد عاد، يتمايل في مشيته.
قال أحمد الملا: وافقت، لكنها تطلب رهناً.
وعموماً كانت هذه القروض قصيرة الأجل، إذ كانت تستحق في أقل من عشر سنوات، وكانت المدفوعات مستحقة مرتين فقط في العام. وكان المقترضون إما لا يدفعون أي شيء من أصل القرض على الإطلاق أو يسددون عدداً قليلاً من هذه المدفوعات قبل تاريخ الاستحقاق.
كما تؤكد هذه الرواية القصيرة على أن سبيل رقي الأمم إنما هو في تمسكها بالعلم والمعرفة، واحتفائها بالمكتبة والكتاب، والعلماء والكتّاب، فبذلك تتبوأ مكانها بين الحضارات، وتسمو بين الشعوب والثقافات، في تقدم وازدهار.
التعليقات