لبنى ياسين: الهاجس الذي يتملكني هو تحويل المساحة من حولي إلى مكان جميل

لبنى ياسين: الهاجس الذي يتملكني هو تحويل المساحة من حولي إلى مكان جميل
لبنى ياسين: الهاجس الذي يتملكني هو تحويل المساحة من حولي إلى مكان جميل

هنالك من المبدعين من اجتمعت لديهم عدة مواهب إبداعية، فهم بارعون في عملية الجمع بين الأجناس الأدبية والإبداعية دون أن يؤثر هذا الجمع على السوية الفنية لأي جنس أدبي أو إبداعي، ولعل خير مثال على ما نعنيه المبدعة السورية / الهولندية لبنى ياسين، التي جمعت بين الشعر والكتابة الصحفية والقصصية والروائية والفن التشكيلي، وهذا ما دفعنا إلى أن نجري معها الحوار التالي:

كل مبدع له هواجس تتعلق بإبداعه منذ طفولته، ما الذي هجست به لبنى ياسين في طفولتها لتتحول إلى مبدعة شهيرة تحظى باهتمام أدبي ونقدي وتشكيلي بارز؟

بداية دعني أحييك زميلي العزيز، وأحيي القراء الأفاضل، وأشكرك على المجهود الذي بذلته في صياغة الأسئلة.

أعتقد أن الهاجس الذي يتملكني هو تحويل المساحة التي حولي إلى مكان جميل، أو ربما محاربة القبح بشكل أو بآخر، لأنني على الصعيد الشخصي شغوفة بالجمال والتغيير، وفي داخلي إيمان مطلق بأن مهمتنا كبشر على هذه الأرض أن نجعلها أجمل.

من هم المؤثرون في بداياتك الإبداعية من البيئة العائلية والمجتمعية؟

في البيئة العائلية تأثير أبي، رحمه الله، كان كبيرًا، فقد كان يطلب مني قراءة، وتلخيص كتب بعينها يختارها لي بنفسه بحجة حاجته لها، وضيق وقته، أدركت لاحقًا أنه كان يتأكد من قراءتي لكتب علم أهميتها في تكويني الفكري، لاحقًا عندما كتبت أول قصة قصيرة مكتملة، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، نشرها كما هي في جريدة "الثقافة" التي كان لها وزنها آنذاك في الوسط الأدبي، مما أعطاني ثقة مبدئية بقلمي.

أمي حفظها الله ترسم، وكثيرًا ما شاهدتها تمارس الرسم، أو الحفر، هذا أيضاً رسم بعض من ملامح طريقي.

في المدرسة لم تكن تمر عليّ سنة دراسية لا تشيد بها مدرسات اللغة العربية بقلمي، وكذلك مدرسات الرسم.

والقراءة التي كانت من أهم العوامل التي صنعت قلمي، ومنحتني رصيدًا من المفردات، والأفكار، والأسلوب، وغيرها مما يعتبر أدوات للكاتب.

يرى الأستاذ مصطفى علوش أن روايتك "رجل المرايا المهشمة" عبارة عن مزيج شخصيات محطمة وهاربة ومشوهة، فيه من السرد المشوق ما يستحق القراءة، وفيه من التعرية والفضح النفسي والاجتماعي ما يستحق التوقف عنده مطولاً، حبذا لو تحدثت عن سبب اختيارك لهذه الشخصيات؟ هل بها تنتقدين الواقع البائس في مجتمعاتنا؟

اختيار الشخصيات المضطربة في الرواية كان لأسباب عدة، أولها الإسقاط، والرمزية، نحن كمجتمعات شرقية من العالم الثالث تم إخضاعها لعمليات غسيل دماغ جماعية منذ أيام الاستعمار، فبثت رسائل لنا تخبرنا بأننا أقل ذكاء، وجمالًا، وفهماً من العرق الأبيض، تنقصنا النباهة بشكلٍ مزرٍ، رسائل كهذه ألقت بظلالها بشكل بائس على شخصياتنا، حتى إننا صرنا نقيم نفوسنا قياساً بهم، أردت أن أقول إنّه بإمكانك أن تخلق وحشاً إن أنت بقيت تخبر إنسانًا طبيعيًا أنه وحش، وغبيًا إن أنت أقنعت عبقريًا بأنه غبي.

كيف تتقنين لعبة التقمص الإبداعية بحيث إنك ذكرت في أحد حواراتك أنّ بعضهم التبس عليه الأمر في إحدى قصصك فظن أنها حول والدتك، واستغرب أنها بطلة وهمية لا علاقة لها بوالدتك.

تقصد قصة "تجيء ويغضي القمر"، سأجيبك بما يصلني من آراء القراء، إذْ كثيرًا ما كتبوا لي ما معناه أن قلمي يستطيع أن يصف المشاعر، ويحللها بشكل تظهر معها وكأنني أكتب عن تجربة شخصية، رغم أنني نادرًا ما أكتب عن أمر شخصي، خاصة في القصص، قد يحدث هذا لأنني أحب علم النفس، وأقرأ كتبه بشكل متواصل، أو ربما الجانب العاطفي لدي يظهر في التعبير عن عواطف الشخصيات بشكل يسبب الالتباس فيظنها القارئ شخصية، وربما لأن هناك فكرة سائدة بأن المرأة الكاتبة تكتب سيرتها الذاتية، فإن كتبتْ العواطف بطريقة لامستْ القارئ ظن أنها تكتب قصتها.

تكتبين نصوصاً شعرية بشفافية بالغة ورغم أنّها حزينة لكنها مشجعة للقراءة لأن فيها المتعة الأدبية للقارئ، وهذا برأيي بسبب أسلوبك الشفاف والشائق، برأيك ما العوامل التي تؤدي إلى إتقانك لهذه النصوص الشعرية بهذا الأسلوب الرائع؟

أعتز بشهادتك هذه، بالعموم غالبًا ما يكون الحزن محركًا فاعلًا للكتابة، وبخاصة الشعر، لأن الشعر فيه شيء من الخصوصية، والشخصنة، يختلف الأمر عندما نتحدث عن القصة، أو الرواية، فهي حتى وإن كانت مشحونة بالمشاعر إلا أنها مشاعر شخصيات القصة، أو الرواية التي ينبغي للكاتب أن يتعامل معها بحيادية، ولا يفرغ فيها مخزونه الشعوري الشخصي، عليه أن يتقمص شخصياته، يكتب بمفرداتها، ولسانها، وإلا وقع في فخ الشخصيات غير القابلة للتصديق.

بالإضافة إلى الأجناس الأدبية والكتابية المتنوعة أنت فنانة تشكيلية تتقنين فن الرسم، برأيك هل هي الموهبة أم حساسية ما أدت إلى الجمع لديك في عدة مجالات إبداعية؟

حقيقة لا أستطيع أن أجزم، أظنه تذوق الجمال، مع عوامل أخرى عائلية، وبيئية، وإذا أردت أن أكون أكثر وضوحاً، أظن أنّ قدرات الإنسان أوسع مما هو يعتقد، لكنها تحبس في قفص العجز، أو الخوف، أو اليأس، أو الظروف غير المناسبة، فتوأد المحاولات الأولى مع أحلام أصحابها.

قرأت مرة دراسة تفيد أن خمسة وسبعين بالمئة من الأطفال يولدون موهوبين، لكن المواهب تتلاشى بعد الخامسة من أعمارهم، وتبقى نسبة قليلة منهم محافظة على تلك المواهب.

هذا يعني أن سوء تعاملنا مع الطفل يقتل مواهبه وهو في عمر صغير جدًا، لم يتعرف فيه بعد إلى قدراته، ولم يكتشف نفسه.

أظنك تعرف قصة الضفدع الذي دخل في تحد مع أقرانه لصعود جبل هائل، ولم يصل للقمة سواه، تبين فيما بعد أنه كان أصمَّ فلم يستمع إلى الضفادع الأخرى التي كانت تقول إن تسلق هذا الجبل مهمة مستحيلة، لا أحد يستطيع القيام بها، فسقط كل المنافسين لأنهم سمعوا الأقاويل المحبطة التي تضع لهم حدودًا قبل أن يكتشفوا حدودهم الحقيقية.

في العالم العربي نشهد كمّاً كبيراً من الروايات بينما يغيب النقد الأدبي إلى حد كبير، على ماذا تدل هذه الكثرة في النصوص والأعمال الروائية؟ وهل تلعب الجوائز الأدبية دوراً في ذلك؟

كثرة الرواية ليست بالأمر المستغرب، ففي المجتمع الإنساني تتناقل القصص منذ قديم الزمان، ويتم تدوينها منذ الأزل بالرسم، ثم بالكتابات القديمة كالمسمارية، وغيرها، ولعل أول عهد البلاد العربية بالرواية بشكلها الحالي كانت رواية "غادة الزاهرة" للكاتبة اللبنانية زينب فواز، والتي صدرت للمرة الأولى 1899، وقد سعدت بأن المبدعة فاطمة الخواجا التي أعادت نشرها، أشركتني في مشروعها الإبداعي باختيار إحدى لوحاتي لغلاف الرواية.

أظن أن الانفتاح الذي تسببت به الثورة التقنية، مع ما أمدتنا به من وسائل تواصل، فتحت أبوابًا مغلقة، فعلى صعيد الطباعة، والنشر صار من السهل جدًا لمن يرغب في النشر أن يتعاقد مع أي دار نشر، أو حتى أن ينشر عن طريق برامج التواصل الاجتماعي، ولن أغفل التنمية البشرية، التي، وإن كان تأثيرها جيدًا في أماكن، لكنها من جهة أخرى جعلت كل حلم وحالم يخضع لمقياس واحد: "ماذا تريد؟"، وهو مقياس منقوص، فما تريده يجب أن يخضع لمعايير أخرى، لا يمكنك أن تنشر كتابًا، وأنت تخطئ بأبسط قواعد الكتابة، أو تورد فيه معلومات غير صحيحة لأنك لم تكلف نفسك عناء البحث.

وأما عن النقد، فهو يقوم على جهود شخصية، أغلبها تعتمد على المعرفة المسبقة بين الناقد، والكاتب، وغالبًا ما تشوبها المجاملات بسبب ذلك، فماذا ترجو من النقاد إن لم يكن هناك مشروع ثقافي متكامل يعطي الناقد حقه المادي المناسب الذي يحترم جهده؟! دعنا من الأفلاطونية، الناس تعاني من ظروف صعبة للغاية، من سيمنح الثقافة وقته إن لم يكن هناك ما يقابل هذا التعب؟!

أما عن دور الجوائز، فإذا كانت الجوائز نزيهة، وليس فيها شائبة تلغي مصداقيتها، أستطيع القول إنها مفيدة للقارئ من حيث إشهار الكتب التي تستحق القراءة، ومفيدة للكاتب؛ إذ يتم تكريم نتاجه المتميز مما يعطيه حافزًا وقوة للسير في الاتجاه الصحيح، حتى العامل المادي منها هام، فلا يخفى على عاقل أن الكتابة لا تطعم خبزًا، هذا فقط إن افترضنا نزاهة الجوائز، و حيادية القائمين عليها.

أنت تعيشين في هولندا حيث المغترب، هل تختلف الكتابة الإبداعية من حيث النوعية؟ أقصد المستوى الإبداعي بين الداخل أي الوطن والخارج أي المغترب.

لكي أجيبك عن هذا السؤال يتوجب علي أن أكتب باللغة الهولندية، لكن ذلك لم يحدث، ما زلت أكتب باللغة العربية، وأتوجه إلى القارئ العربي.
لكن من جهة أخرى هناك فرق في التلقي، فالناس هنا تهتم بالقراءة أكثر مما يفعل مواطننا العربي المشغول كثيراً بلقمة العيش، ومشاكله اليومية التي تحفر أنفاقًا في رأسه.

في أمسية أدبية ألمانية-عربية تمت ترجمة إحدى قصصي إلى اللغة الألمانية، وتوليت أنا القراءة باللغة العربية للحضور العربي، وتولى فنان ألماني قراءة الترجمة الألمانية للألمانيين، فاجأتني ردة فعل الحضور الألماني الذي تفاعل مع القصة بشكل مدهش، ونزل كثير منهم إلى المسرح حيث أقف ليخبروني أنهم سيشترون الكتاب الذي جمع النصوص المشاركة في هذه الأمسية التي استمرت لثلاثة أيام خصيصًا لقراءة القصة مرة أخرى.

ورغم أن الجمهور العربي أيضًا أبدى اهتمامًا، وحماساً إلا أن حميمية التلقي الذي أظهره الجمهور الألماني لم أره من قبل لدى العربي، لكنني كما أسلفت لا أستطيع لومه وسط ظروف أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها صعبة.

لبنى ياسين، أنت نشطة جداً ولك حضور لافت في الوسط الأدبي والفني التشكيلي والكروبات والمنتديات الثقافية، نلتِ جوائز أدبية كثيرة وعضوة في عدة اتحادات للكتاب، وتم اختيارك ككاتبة من بين الـ100 كاتب في العالم، من خلال تجربتك الغنية هذه بماذا تنصحين الكتاب والمبدعين الناشئين وهم في بداية خطواتهم نحو عالم الإبداع؟

سأوصيهم بما أوصاني به أبي رحمه الله "القراءة".
وسوف أخص النساء بنصيحة: "لا تنطفئي"
فكثيرًا ما تختفي أقلام نسائية واعدة بعد الزواج لانشغالها بأمور الأسرة، والتربية، ورغم أهمية دورها هذا، إذ إن صناعة إنسان ليست بالأمر الهين، لكن حبذا لو أبقت المرأة حيزًا لأحلامها، يحميها من التبخر في الهواء الذي سيتسبب لها فيما بعد بخيبة كبيرة تنعكس سلبًا على عائلتها.

التعليقات

فيديو العدد