رواية "الخنجر المرهون" لحاكم الشارقة .. درس أخلاقي لرقي الأمم
العدد 162 - 2025
من عمق البادية وأطراف الصحراء بجنوب مصر، أطلّت علينا موهبة فذة قلّما يكررها التاريخ الأدبي.. الشاعر المجدد للتراث العربي محمد عبدالمطلب الجهني، الذي لُقب بـ (شاعر البادية) صاحب بصمة في الأدب المعاصر، فقد مازج بين جزالة اللفظ وسحر الطبيعة، ليعيد إلينا جمال الشعر العربي بروح معاصرة.
وقد وصف الأستاذ عباس محمود العقاد شعره بأنه أقرب ما يكون إلى النموذج الشعري في صدر الدولة الإسلامية، في الأسلوب والخيال والموضوعات. وقد اعتمد العقاد في كتابه (شعراء مصر وبنياتهم في الجيل الماضي) على ما كتبه الشاعر والعلامة أحمد الإسكندري في تصدير ديوانه، حين تطرق إلى تاريخ ونسب شاعر البادية أو (البدوي) محمد عبدالمطلب، وصفاً الإسكندري شاعرنا بأنه (كان حجة في الأدب واللغة، محيطاً بأكثر جزلها وغريبها، وكان شاعراً منقطع النظير في شعره، لا يكاد سامعه يفرق بينه وبين شعراء أهل القرنين الثالث والرابع).
كما كان عبدالمطلب نموذجاً بارزاً، لفهم مختلف لحركة الإحياء الشعري، التي نسبت إلى محمود البارودي، وباقي أبناء جيله مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد محرم وعلي الجارم وغيرهم.
وُلد الشاعر محمد عبد المطلب الجهني في صعيد مصر، في كنف عشيرة أبي الخير، التي تنتمي إلى سلالة قبيلة جهينة، إحدى أعرق القبائل العربية بمصر، تربى في بيئة بدوية أصيلة، حيث كان الشعر جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للبادية، يتناقلونه كأنغامٍ تحفظ تاريخهم وتروي أمجادهم.
كانت ولادته في العقد الأخير من القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين (بحسب الروايات التاريخية الشفوية التي تناقلها أفراد قبيلته)، في منطقة تجسّد حياة البادية بكل تفاصيلها، وقد شكّلت هذه البيئة المليئة بالصحراء الرحبة والسماء الممتدة مصدر إلهام دائم له، حيث تركت بصمتها الواضحة على قصائده التي عكست جمال الطبيعة وجزالة اللغة.
ومحمد عبد المطلب، وُلِد سنة (1870) في بلدة (باصونة) التابعة لمحافظة (سوهاج) حالياً، مديرية (جرجا) سابقاً، لأبوَين من (جهينة)، وكان والده محباً للعلم، فأرسل ابنه إلى الأزهر وتلقَّى فيه العلم نحو سبع سنين، ثم انتقل إلى «دار العلوم» ومكث بها أربع سنوات، وتخرَّج منها عالمًا أديبًا، وتولَّى التدريس في مدارس الحكومة، واختير مدرِّسًا بمدرسة «القضاء الشرعي»، ثم مدرِّسًا في «دار العلوم»، ونضج علمه، واكتمل شعره وأدبه، فصار من فطاحل الشعراء الذين يُشار إليهم بالبنان، ولما شبَّت ثورة (1919) ساهَم فيها بشعره وأدبه وجهاده، وخلَّد حوادثها بقصائده الغُر، وكان حجة في الأدب واللغة، وشعره يجمع بين البلاغة والجزالة وروعة الأسلوب، وبلغ في مكانته الشعرية منزلة فطاحل الشعراء المتقدمين، وكانت الروح الوطنية الدفَّاقة تتجلى في معظم أشعاره وقصائده، وله في هذه الناحية إنتاج ضخم يصلح في ذاته أن يكون ديوانًا مجتمِعًا من الشعر الوطني، وقد ظل على إنتاجه الشعري إلى أن أدركَته الوفاة سنة (1931)، حيث أقيم له حفل تأبين برعاية وزير المعارف العمومية – وقتئذٍ - كتب عنه، والدكتور أحمد هيكل في كتابه تطور الأدب الحديث في مصر، المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه شعراء الوطنية في مصر، والدكتور عمر الدسوقي في كتابه في الأدب الحديث، والدكتور محمد عبد الجواد في كتابه تقويم دار العلوم، وعبدالله شرف في كتابه شعراء مصر 1900 – 1990.
كانت بدايته في كتابة الشعر انعكاسًا مباشرًا لحياة البادية التي عاشها، فقد بدأ بنظم قصائد تصف البيئة من حوله، تعكس مشاعر الفخر، والحب، والحزن، والاعتزاز بالأرض والأهل، ومن أولى قصائده التي حازت على إعجاب مستمعيه، قصيدة وصفت جمال الطبيعة الصحراوية التي نشأ فيها، وكأنها محاولة لتوثيق إرثها في كلمات لا تنسى.
ولم تقتصر موضوعاته على الطبيعة فقط، بل تناولت قصائده قضايا مجتمعه، مثل الكرم، الشجاعة، الفروسية، والحب الصادق، وشيئًا فشيئًا، بدأت شهرته تتسع، حتى أصبح شاعرًا معتمدًا في القبيلة، يُستدعى لإلقاء الشعر في المناسبات الكبيرة والأعياد.
لم يكن عبد المطلب بعيدًا عن تأثير التراث الشعري العربي الغني، فقد كان تأثره كبيرًا بالشعراء الجاهليين مثل زهير بن أبي سلمى، الذي عُرف بحكمته وبلاغته، وامرئ القيس، الذي كان رمزًا للتغزل بجمال الطبيعة والمرأة. كما تأثر بشكل خاص بشعر عنترة بن شداد، الذي جمع بين الفروسية والغزل، وهو ما انعكس في قصائد محمد عبد المطلب التي مزجت بين الفخر بالقبيلة والتغني بجمال البادية، ولعل أبرز ما يميز قصائده هو روح الأصالة والجمال التي استلهمها من التراث الجاهلي، لكنه أضاف إليها لمسة عصرية تناسب مجتمعه وزمانه.
إلى جانب ذلك، تأثر بشعراء العصر الإسلامي مثل حسان بن ثابت، حيث كان يرى أن للشعر رسالة سامية تتجاوز التسلية، لتكون أداة للإصلاح وبث القيم النبيلة في النفوس. وقد ظهر هذا التأثير جليًا في قصائده التي كانت تدعو للكرم والوحدة ونبذ الفساد.
وهو أيضاً صاحب الإلياذة العلوية أو (القصيدة العلوية)، التي نظمها في مائتين وستين بيتًا على غرار ما نظم حافظ إبراهيم (القصيدة العمرية) أما الشاعر عبد الحليم المصري فقد نظم الملحمة البكرية. وبالإضافة إلى هذه الملاحم الثلاث نظم أحمد محرم (الإلياذة الإسلامية) فأعجبت الفكرة أحمد شوقي الذي كان متردداً فيها ونظم إلياذة أخرى سماها (ديوان دول العرب).
وتعتبر تجربة محمد عبد المطلب الجهني سجلًا شعريًا نابضًا للحياة البدوية، ومن بين نصوصه يقول في قصيدو وثبة مصر (1920):
تكلَّم وادي النيل فليسمع الدهرُ
وأملى على الأيام فليكتب الشِّعرُ
فحسبُ العوادي نَهمةُ النيل زاجراً
وحسب الليالي أن يُقال صحَت مصرُ
صحَت بعدما أزرى بها الصبرُ والأنى
ويا ربما أذرى بصاحـــــــبه الصـــــــــــــبرُ
لعـــــــــمرُك ما صبـــــــــــرُ الأبي مهانةً
ولكنَّ صمــــت اللَّيث يعقبه الزأرُ
تميزت لغة عبد المطلب بالجزالة والقوة، حيث كان يستخدم المفردات العربية الأصيلة التي تحمل عبق الماضي، وتجمع بين الفصاحة والبساطة، أما أسلوبه، فكان يميل إلى الوصف الدقيق والتشبيهات المستوحاة من البيئة الصحراوية، كان يختار كلماته بعناية فائقة لتنساب معانيها بسهولة إلى القلب، مما جعل شعره يلقى قبولًا واسعًا بين البدو وسكان المدن على حد سواء.
لقد ترك محمد عبد المطلب أثرًا عميقًا في عالم الشعر البدوي، فاستطاع أن يكون صوتًا يعبر عن هموم البادية وأفراحها، وأن يحفظ تراثها الشعري في كلمات تنبض بالحياة، وقد ألهمت قصائده العديد من الشعراء المعاصرين الذين اقتفوا أثره وساروا على نهجه في عالم الشعر، حيث تتداخل الأصوات وتتنوع الأساليب، يبقى الشاعر محمد عبد المطلب الجهني رمزًا للأصالة، وشاعرًا نجح في أن يعكس حياة البادية بكل تفاصيلها في أبيات شعرية خلّدت ذكراه، إنه شاعر استلهم من تراثه قوة الإبداع، ومن بيئته جمال التصوير، ليظل صوته حاضرًا في سماء الأدب العربي، ملهمًا للأجيال القادمة.
التعليقات