تأخر النطق عند الأطفال
العدد 164 - 2025
منذ أن وُجد الإنسان وهو يسعى إلى الطمأنينة النفسية والسلام الداخلي، فالعقل البشري لا يحتمل الفوضى، والروح لا ترتاح في غياب المعنى. ومع تطور الحضارات البشرية، عجزت الكثير من الفلسفات والنظم المادية عن توفير السكينة الحقيقية للإنسان، خاصةً في العالم الغربي، حيث يعلو صوت الفردية والمادية على حساب الروح والقيم. في المقابل، قدّم الإسلام منظومة متكاملة للروح والعقل والجسد، استطاعت أن تحمي الإنسان من الانهيار النفسي، وأن تمنحه القدرة على الصبر والمواجهة بدلًا من الاستسلام واليأس.
الإسلام لا ينظر إلى الإنسان كمجرد جسد مادي، بل يراه روحًا وجسدًا وعقلًا، ويؤكد أن التوازن بين هذه الأبعاد هو أساس الصحة النفسية. قال تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، فالإسلام يقرر منذ البداية أن الطمأنينة الحقيقية لا تأتي من المال ولا من المتع المادية بل من اتصال القلب بالله.
وفي المقابل، يحذّر من الفراغ الروحي الذي يؤدي إلى الضنك والاكتئاب: ﴿وَمَن أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ هذه المعادلة الإلهية تُظهر أن الاضطراب النفسي ليس فقط نتيجة ضغوط خارجية، بل أحيانًا نتيجة انفصال الروح عن مصدر الطمأنينة، هذا الاتصال الروحي ليس مجرد شعور لحظي، بل هو ممارسة يومية من خلال الصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، واليقين بالقضاء والقدر. هذه العبادات تعمل كوقاية نفسية عميقة تمنح الإنسان إحساسًا بالأمان حتى في أصعب الظروف.
القرآن لا يقدم أحكامًا تشريعية فحسب، بل هو كتاب شفاء كما وصفه الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
عندما يتلو المسلم القرآن، يشعر بالاحتواء والسكينة، لأنه يسمع كلمات الخالق الذي يفهم آلامه ومخاوفه. بل إن كثيرًا من الآيات تعالج القلق والاكتئاب، ولم يصف الله القرآن بأنه هداية فقط، بل وصفه بأنه علاج للقلوب المريضة بالقلق والحزن: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ الإسراء: 82، ﴿قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ يونس: 57.
فالاستماع للقرآن وقراءته ليس مجرد عبادة، بل جلسة علاج روحي، يغسل فيها الإنسان ضغوط يومه.
إن أحد أعظم ما يميز الإسلام هو مفهوم الرضا بالقضاء والقدر. في العالم الغربي، حيث تُرفع شعارات "أنت تتحكم بكل شيء"، ينهار الإنسان إذا خسر، لأن الفلسفة المادية تجعله يعتقد أن الفشل وصمة ونقص، يعيش الغرب تحت فلسفة "كل شيء بيدك"، مما يجعل الفشل كارثة وجودية.
أما الإسلام فيعلّم العبد أن الأحداث بقدر الله، فيرتاح القلب: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ۚ هُوَ مَوْلَانَا﴾ التوبة:51، وقال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل". رواه مسلم. كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك". رواه الترمذي.
هذه العقيدة تمنح النفس سلامًا عند الخسارة، فلا تنهار الروح أمام التجارب حيث يُعلَّم المسلم أن ما قدّره الله خير، حتى لو لم يفهمه الآن، لأن الإيمان بالقدر يمنح الإنسان قوة قبول الواقع بدلًا من مقاومته بشكل مدمر؛ فهو لا يعني الاستسلام السلبي، بل يعني السعي والعمل ثم التسليم للنتائج دون انكسار داخلي.
الغرب يقوم على الفردية المفرطة، حيث يعيش الإنسان منعزلًا حتى لو كان محاطًا بالناس. الانتحار ومرض الاكتئاب مرتفعان هناك رغم وفرة الإمكانيات المادية، لأن الإنسان يشعر أنه وحده في مواجهة الألم.
أما في الإسلام، فالمجتمع يقوم على التراحم والتكافل. زيارة المريض، الصدقة، الدعاء للآخرين، ﴿وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَى﴾ المائدة:2
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". متفق عليه. ان صلة الرحم ليست مجرد أعمال اجتماعية، بل هي شبكات دعم نفسي تُشعر الفرد أنه غير مهمل وغير منسي.
يقول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْـَٔاخِرَةِ هُمْ غَـٰفِلُونَ﴾ الروم: 7.
الحضارة الغربية حضارة بلا روح تشبه جسدًا بلا قلب، مهما تحسّن شكله الخارجي، يبقى هشًا من الداخل. لذا تنتشر هناك عبارات مثل "لا أجد سببًا لأعيش" رغم وفرة كل شيء.
هناك عدة أسباب نفسية وحضارية تجعل الإنسان الغربي أكثر عرضة للاستسلام أمام الألم العقلي:
أما الإسلام فيعلّم الإنسان أن الألم جزء من طريق القوة، فالإسلام لا يعد الإنسان بحياة بلا ألم، بل يعلّمه كيف يتعامل معه. يقول النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن، إلا كفّر الله بها من خطاياه". بهذا الحديث، يتحول الألم من عبء إلى فرصة تطهير ورفع درجات. هذه النظرة الإيمانية تُبدل نظرة الإنسان تجاه المعاناة، فيراها مرحلة عبور وليست نهاية الطريق.
في الإسلام، ليس هناك وسيط بين العبد وربه. عندما يشعر المسلم بالضيق، يرفع يده ويقول: "يا رب"، وهذا الاتصال المباشر يحقق أثرًا نفسيًا عميقًا لا يمكن تحليله بالأدوات المادية وحدها، فالإسلام يمنح الإنسان هوية راسخة. أما الهوية في الغرب فمتغيرة وهشة، يُطلب من الإنسان أن يحدد هويته كل فترة، مما يخلق ارتباكًا داخليًا. أما في الإسلام، فالمسلم يعرف من هو: عبد لله، مكرم، له رسالة. هذه الهوية الثابتة تحميه من التشتت النفسي.
الإسلام ليس مجرد دين شعائري، بل نظام حياة موجه لسلام الروح وعافية العقل. الإنسان الغربي اليوم، رغم تقدمه العلمي والتقني، يعيش حالة عطش روحي تجعله ينهار أمام الألم النفسي سريعًا. بينما المسلم، إذا فهم دينه بعمق، يجد في القرآن واليقين بالقضاء والقدر والتواصل مع الله والعلاقات الاجتماعية الرحيمة درعًا نفسيًا يقيه من الانهيار.
إن العودة إلى قيم الإسلام ليست عودة للماضي، بل هي عودة للمعنى، للطمأنينة، للاتزان الداخلي الذي يبحث عنه كل إنسان مهما اختلفت ثقافته أو لغته، فالإسلام ليس دينًا يعالج الحياة بعد الموت فقط، بل يعيد ترتيب الروح في هذه الحياة قبل أي شيء، وفي حين يستهلك الغرب المهدئات والعقاقير لتسكين الألم النفسي، يعلّم الإسلام المسلمين أن كل محنة تتبعها منحة ولا بد من اليقين بأن قضاء الله وقدره هو ما كتبه الله عز وجل لا لكي نشقى ولكن لكي نسعد.
التعليقات