أوبرا وينفري .. البعيدة عن الناس العاديين

أوبرا وينفري .. البعيدة عن الناس العاديين
أوبرا وينفري .. البعيدة عن الناس العاديين

عاشت في ولايات عدة، متنقلة بين مأوى أمها وكوخ أبيها وشقة جدتها ومنازل أقاربها، حتى مركز الرعاية وإعادة التأهيل لم يتوفر لها مكان فيه. حيث النوم على الأرض أمر مألوف، وعدم توفر الكهرباء المنتظمة وانقطاع المياه المستمر مسألة اعتيادية.

أما الدمى والعرائس أو حتى الألعاب فلم تحظَ بأي منهم، وغابت معهم فكرة الصديق المتخيل في طفولتها، حين حيكت فساتينها من أجولة البطاطا وصار اسمها فتاة الكيس. فلم تولد في بيئة مشجعة ولم تحظَ بدعم مستقر، لكنها امتلكت العناد لتتمسك بذاتها وشعورها بالاستحقاق، مع سنوات طويلة من الالتزام وإصرارها على الإعتناء بنفسها، فكانت تحلم رغم كل شيء معلنة أن: السماء وحدها هي حدودها. مُتحولة من الشهرة الشعبية إلى النخبة العالمية خلال ربع قرن، دون أن يكون لإسم عائلتها ولا صلة القرابة أوالورثة المتروكة علاقة بثروتها التي جمعتها من عرق جبينها، وهي القائلة: "عندما تغير حياة فتاة، فأنت لا تغيرها وحدها، والنساء وحدهن هن القادرات على تغيير وجه أفريقيا"؛ فكيف تملكت أوبرا وينفري البيوت جميعها؟

عندما نطقت حفيدة هاتي ماي لي

لأن هذه المرأة كان لديها الكثير لتقوله، تعلمت القراءة عندما بلغت عامين ونصف العام، بعد أن فتحت الكتاب المقدس لتقرأه مع جدتها شديدة الصرامة. كانت تتخيّل أنها على خشبة مسرح ما وحيوانات المزرعة كانوا جمهورها، لتُدرك والدة أبيها موهبتها الفطرية وظلت تشجعها على الاستمرار فيها.
في سن الثالثة بدأت تتحدث أمام الكنيسة المحلية، وكانت تحكي عن نفسها: "أعلم أنني مختلفة، حتى لو لم أفهم بماذا؟". ثم أُرسلت لتُقيم مع والدها فيرنون وزوجته باربرا، الذي جعلها تتعلّم كلمات جديدة كل يوم وتقرأ كتابًا وتكتب تقريرًا عنه كل أسبوع، حتى صار يصطحبها معه بانتظام إلى الكنيسة، لتجد هناك المزيد من الفرص في تحسين مهاراتها الخطابية من خلال التحدث بالتجمعات الدينية.

وقد حصلت مرة من المرّات على مبلغ خمسمئة دولار مقابل خطاب قامت بإلقائه، إلى أن انضمت في المدرسة الثانوية للعديد من الأندية مثل نادي القراءة ونادي المُناقشة ونادي المناظرة، لتحصل بعدها على منحة جامعية كاملة المصاريف، من خلال الفوز في مُسابقة للتحدث أمام الملأ. ومن هنا عرفت أن الحديث مع الآخرين هو ما ترغب في القيام به لبقية حياتها، فلمَ لا تحصل على أجر مدفوع مقابل كل الكلام الذي تقوله ومن خلفها قاعدة كبيرة من المستمعين؟

ماذا تقول أوبرا وينفري؟

ليس سؤالاً ينتظر الإجابة، إذ كثيرًا ما لجأت إلى الصراحة المطلقة ومشاركة تجاربها الشخصية، مع قاعدتها الجماهيرية في برنامجها الحواري "ذا أوبرا وينفري شو"، الذي أطلت فيه طيلة خمسة وعشرين سنة على عائلات أمريكا، وصنعت صورتها كواحدة من أكثر الوجوه المعروفة وحافظت على ولاء معجبيها.

فقد قابلت صديقة النجوم والمشاهير كلها، شخصيات بارزة بعفوية مطلقة، جعلتهم يكشفون أسرارهم الشخصية أمام الكاميرات وخلف الكواليس أيضًا. وأجرت حوارات تهدف إلى عرض الحقيقة وطرح وجهات النظر المختلفة في عدد من المواضيع، وقدمت قصصًا مؤثرة عن التواصل البشري.

كما أنها استمتعت إلى الجدات والأجداد والأمهات والآباء وأبنائهم وأحفادهم، أعطت لكل منهم مساحته لكي يُنصت إليه، فصارت فردًا جديدًا ومحبوبًا لدى جميع أفراد العائلة. ونجدها إذا لم تسمع إجابة كاملة كما توقعتها، تُعيد سؤالها مرة أخرى بعد قليل في سياق مختلف، تاركة مشاهديها معلقين للحصول على المزيد مع كل فاصل إعلاني.

وبالرغم من تعرضها لانتقادات لاذعة في إطلاقها العنان لثقافة الاعتراف، والترويج لأفكار المساعدة الذاتية المثيرة للجدل، واتباعها نهجًا يركز على العاطفة النفسية، إلا أنها تميزت باحتفالها في الاختلاف ومحفزة لاحتواء تجربة الآخر، ناذرة نفسها للتحدث عما تراه حقيقيًا في نظرها.

السرّ وراء تأثير أوبرا

"دودة الكتب" هكذا كانت تُلقب في صغرها، بسبب قراءتها للأدب الإنجليزي، مما ساعدها على تبني مفردات قوية. كانت ترى أن الكتب تمنحها فكرة: أن هناك حياة مختلفة - خلف المشهد-؛ فتقرأها بصوتٍ عالٍ.

وعندما نفكر في نوادي كتب الشخصيات العامة، فلا بد أن يتبادر إلى الذهن سطوع نجمها السحري، ضمن ظاهرة التسعينيات للكتب الأعلى مبيعًا في عالم النشر؛ إذ استطاعت أن تضع كتابًا لم يكن متداولاً في السابق على قوائم الأكثر طلبًا، مُطلة على حركة القراءة بترشيحات أدبية يثق المنضمون إليها في اختياراتها الثقافية، وإن حمل البعض منها نشوء مجموعة من الخلافات الأدبية، التي صنعت لاحقًا ما يُعرف بـ "تأثير أوبرا"، وهو مصطلح يشير إلى قدرتها على تحويل الإصدارات المطبوعة غير المعروفة إلى مقروئية عالية، وهو ما جعلها قوة مؤثرة في صناعة النشر، محولة معها القصة الإنسانية إلى علامة تجارية. فيما قدّر ناشرون أن باستطاعتها بيع كتاب بنسبة تصل من عشرين إلى مئة مرة، أكثر من أي شخصية بارزة أخرى.

وربما كان عشقها للقراءة هو ما دفعها إلى تقديم فقرة "نادي أوبرا وينفري للقراءة" ضمن برنامجها "ذا أوبرا وينفري شو"، ثم من خلال مشروع "كتب أوبرا وينفري" وتعرض من خلاله كتبها المفضلة التي تقرأها كل عام، حتى قررت أن تأخذ الأمور بشكل مختلف قليلاً وتوصي بسبعة أعمال مكتوبة تصفها بـ"الكتب التي ساعدتني". لتحصل بعدها على الميدالية الذهبية من اتحاد الكتاب الأمريكي تقديرًا لتنشيطها سوق الكُتب، وجائزة الشرف من اتحاد الناشرين الأمريكيين لتأثيرها في صناعة الكِتاب بالولايات المتحدة الأمريكية.

اكتب كما لو كنت السيدة وينفري

كانت دائمًا تعود للسؤال عن: "ما الذي يجعلنا بشرًا؟"، وللإجابة عنه كتبت الكثير حول شكل جسدها، فعرفتنا على الإنسان خلفه. ليحمل قلمها المكتوب طرحًا نادرًا من البوح المُعلن وأبعد ما يكون عن الهامشية. كان مظهرها الخارجي فيه موضوعًا يدور حوله الحديث؛ ذلك أن الكلمة عندها صادقة مثل مرآة نظيفة: لم تلمّع ما تراه، لكنها لم تُغبره أيضًا.

وقد كانت هذه المعاناة الداخلية علنية جدًا أمام الجمهور وعلى الشاشات، وهي التي تُسجل يومياتها منذ أن كان عمرها خمسة عشر عامًا، في جزء أصيل من رحلتها مع الذات، والتمكين، والشفاء؛ لتكتب ذات مرة: "في كل مرة كنت ألجأ فيها إلى الطعام، كنت أبحث عن شيء أعمق من الراحة، وزني لم يكن يومًا متعلقًا فقط بما كنت آكله، بل بما كان يلتهمني من الداخل".

هذا الاقتباس يلخص فلسفة المرأة التي لا تؤمن بالفشل حول الأكل العاطفي، ويكشف أن علاقتها بالطعام لم تكن جسدية فقط بل نفسية أيضًا ومرتبطة مع الإحساس بالقيمة. حتى تطورت نظرتها لنفسها لاحقًا، من التركيز على شكل الجسم إلى الاهتمام بالصحة الشاملة: الجسدية، والنفسية، والروحية. وربطت تناول الأطعمة مع الرضا النفسي، لا بمجرد السعرات الحرارية المحسوبة. كما كتبت لا لتمنح وصفة جاهزة للتغيير، بل لأنها تعرف أن في الكلمة ما يشبه اليد التي تُربت على كتفٍ منهكة.

وإلى يومنا هذا مازالت عيون المحبين تتبعها مُراقبة لمعرفة ما يمكن أن تصل إليه أيضًا وما الجديد الذي تسعى إلى تحقيقه، هي التي بدأت حياتها بحلم كانت تحلمه وبنته من اللحظة التي كانت صادقة فيها مع نفسها، عندما أعلنتها قائلة: "لكنني الآن لديّ الحرية، وسوف أتحدث إلى الملايين كل يوم".

التعليقات