تأملات كريمة.. يمرون .. ولا يرحلون

تأملات كريمة.. يمرون ..  ولا يرحلون
تأملات كريمة.. يمرون .. ولا يرحلون

يتسلّل ضوء شمس الشتاء الناعسة من زجاج المقهى ليرسم خطوطًا من نور على طاولة كريمة وكرسيِّها.. يصافح وجهها مما يضيف لمسة دفء تغمر المكان، وتتكامل مع بخار الزنجبيل الممتزج برائحة مطرٍ انتهى للتوّ.
دفترها مفتوح أمامها، ينتظر أن تكتب فيه كلامًا يُعاش.. ولا يُقال.
تتأمل المحيطين بها كما يحلو لها دائمًا.. حيوات مختلفة تُختزَل في مكان واحد، دروسٌ وعِبر تُقدَّم بلا مقابل، فقط لو أحسنّا التأمّل.
تلفتها حركةٌ قلقة لإحدى الفتيات رفقةَ أمها.. تحرّك بيدها كوب "كولد برو" مزيّن برغوة ملونة، تنظر إليه بعبوس وكأنها تبحث عن سبب لتستاء. تنادي النادل لتخبره بأنه لا يعجبها.. تطلب شيئًا آخر، وقبل أن يصل طلبها تقول لأمها بغضب خافت:

  • أمي، هل يمكننا أن نخرج من هنا الآن؟

تبتسم الأم بصبر، وتجيب بهدوء:

  • ألم تكوني أنت من طلبت أن نأتي إلى المقهى لأنك مللت من التسوق؟

تتنهد الفتاة وقد وعت أنها تتذمر دون سبب.. تقلب الهاتف في يديها، تُعلن بنغمة نشازٍ وسط لوحةٍ هادئة من السكينة:
أشعر بالاختناق.. فلنغادر الآن.
ينظّف النادل الطاولة وراءهم.. ثم يقترب من كريمة بخطواتٍ هادئة وهو يقول بابتسامة مشرقة:
"اليوم أضفتُ القليل من العسل إلى الزنجبيل؛ لأني تذكّرت أنك تحبينه محلّى في الأيام الباردة."
تنظر إليه بدهشة وهي تبتسم من لُطف الصدمة:
كيف تذكرت ذلك؟ كان ذلك من عامٍ تقريبًا!
يجيب ببساطة وتلقائية وهو يرفع كتفيه:
إنه عملي.
قالها وانطلق غيرَ منتظرٍ شيئاً. يكمل عمله بإتقان وإخلاص، يتفانى في إسعاد الآخرين دون أن يسعده أحد. تأمّلته طويلًا؛ كيف يمكن لإنسانٍ مُرهَق متعب أن يمنح كل هذا العطاء والسعادة، وكيف يمكن لمن يملك الرفاه أن يضيع عنه الامتنان في متاهات التذمّر.
استمرت في تأمّله، حركته الدؤوبة رغم التعب، ملامحه المطمئنة رغم أخاديد الإرهاق، بعد فترة رأته يقتنص لحظات راحة قصيرة، يُخرج ورقة من جيبه.. يقرأها فتطفو على وجهه ابتسامة مشوبة بحنين صادق؛ يتنهد، يعيد الورقة إلى جيبه ويقوم لعمله من جديد.
قاومت فضولها لكن ليس لفترة طويلة، حين مرّ من أمامها سألته بابتسامةٍ حانية:
"تبدو تلك الورقة عزيزة عليك."
فأجابها وقد خفض صوته كمن يعلن عن كنزٍ دفين:
"هي رسالة من ابني قبل أن يسافر.. كتب فيها: إذا تعبت، تذكّر أنني تعلّمت الصبر منك."
ثم أضاف وهو يشيح بنظره بخجل:
"كلما قرأتها، شعرت أني بخير مهما كان التعب."
يهزّ رأسه ويغادر، وابتسامته الهادئة مازالت تضيء في عيني كريمة أكثر من كل مصابيح المكان.
تتأمّل المفارقة بعَجب: أحدهم يرى النعمة عبئًا، والآخر يرى التعب نعمة!
تمسك قلمها وتكتب:
"ليس الأثر ما نصنعه عن قصد، بل ما يفيض منّا دون تفكير، عاكِسًا جوهرنا الذي لم نجتهد لنُظهره. كم من متعبٍ يمنحنا راحة! وكم من مرتاحٍ يبدّد السكينة! أحدهم يعيش ليستهلك الحياة، والآخر يمنحها المعنى."
تغادر كريمة المقهى وهي تشعر أن روحها تحلّق في مكان آخر.. غريب.. كم من الناس يعيشون بيننا ولا يعرفون كم يضيئون! حمدت الله على هذه اللقاءات العارضة، التي تذكّرها أن الأثر الأجمل هو ذاك الذي لا يقصده صاحبه أبدًا.

التعليقات