تأملات كريمة.. يمرون .. ولا يرحلون
العدد 164 - 2025
يشكل التراث الإنساني بعداً أدبياً له دلالاته المعرفية والعجائبية، التي نستشرف منها رؤى مغايرة عن الماضي، ونسترشد بها لمعطيات الحاضر ومستجدات المستقبل، فهو المعين الذي لا ينضب. كما تلعب الترجمة دوراً بارزاً في إحياء هذا الموروث الثقافي الإنساني، وهذا ما ركنت إليه الكاتبة والمترجمة فريدة جابر، من خلال تطواف محكي في كتابها (مهرناز) حكايات شعبية من التراث الفارسي، الصادر عن دار المحيط، والذي جاء في 155 صفحة من القطع المتوسط والتغليف الجيد، وتضمن 32 حكاية شعبية تم اختيارها بعناية، والعمل عليها بمنتهى الحرفية المهنية والأدبية.
وقد راعت (جابر) روح النص الأصلي، مع وضع لمسات أدبية أضفت على الكتاب روحاً إبداعية من خلال لغتها الفائقة في سرد الأحداث والأماكن والأزمنة والشخصيات؛ فقد امتلكت الكاتبة لغة طيّعة من حيث الصياغة والتراكيب اللغوية مكنت (جابر) في إيصال روح النص بلغة بليغة ومعانٍ ملهمة، فالترجمة عند فريدة جابر عالم من الإبداع الموازي، الذي يأخدنا إلى فضاءات من الأخيلة والتعابير والحكم والتصاوير التي تجعلك داخل الحدث، حيث رسمت الحكايات بريشة فنان وعقل فيلسوف، وترانيم ناسك في محراب اللغة.
فالحكايات الشعبية تقف كهوية موازية للتاريخ المكتوب، فهي ليست مجرد سرديات تُروى في ليالي الشتاء حول الموقد، بل هي خلاصة قرون من التجربة الإنسانية، اختلط فيها الواقع بالأسطورة، والعقل بالحلم، والملحمة بالحكمة اليومية، يشكّل التراث الفارسي واحداً من أغنى خزائن القصص في الشرق، لما يحمله من تداخل ثقافي وحضاري طويل، ولما يميّزه من لغة رمزية تُسخّر الخيال في خدمة القيم والمعاني.
ما يميّز الحكاية الشعبية الفارسية هو قدرتها على الجمع بين الحكمة والفكاهة؛ فهي تعلّم عبر التلميح لا الوعظ، وتمجّد القيم الإنسانية مثل الشجاعة والوفاء والتسامح، وتحتفي بالمستضعفين الذين ينتصرون بالحيلة لا بالقوة. كما أنها تعكس تنوع المجتمع الإيراني، من القرى الجبلية شمالاً حتى الصحارى جنوباً، حيث تحمل كل منطقة بصمتها الخاصة في اللهجة والأسلوب ونوع الأبطال.
وقد راعت (جابر) كل هذه المعطيات في كتابها كونها مترجمة تعي المسؤولية الأدبية التي تقع على عاتقها، ولأن الترجمة ليست مجرد نقل حرفي، فإن المترجم يصبح شريكاً في صنع المعنى، يعيد تشكيل النص بما ينسجم مع ثقافة المتلقّي دون أن يفرّط في أصالة المصدر، وفي هذا التوازن الدقيق بين الأمانة والإبداع، تولد حياة جديدة للنص، ويتحوّل من تجربة محلية إلى أثر إنساني مشترك.
ولقد أسهمت الترجمة في تفكيك العزلة الثقافية، حين قدّمت لكل أمة فرصة النظر إلى ذاتها بعيون الآخرين، فهي تتيح للشعوب أن تتعرّف إلى ما هو مختلف، وأن تدرك أن القيم الإنسانية تتكرر بأشكال متعددة مهما اختلفت اللغات، ومن خلال المترجمين، الذين يعملون بصمت كمبدعين خلف النصوص، تنتقل روح الحضارات بكل ما فيها من جمال وتناقض.
وكما جاء في كتاب (مهرناز): الحكايات الشعبية تمثل الثقافة العميقة للشعوب بتعبيرات وأحداث وسلوكيات واعتقادات تضمّن في قصص شائقة وممتعة، إنها الذاكرة المشحونة بالعاطفة والقيم الخاصة، والسياق المشبع بالرؤى الإنسانية، ووسيلة نقل الانتماء عبر الأجيال، والتعريف بالذات إزاء الآخر المختلف في هويته وتاريخه. وفي هذا الكتاب (مهرناز) حكايات فارسية شعبية ننقلها من لغتها الأصل، مع الحافظ على عفويتها ونكهتها، ضمن مشروع دار (المحيط) للنشر في التعريف بحكايات الشعوب.
وبهذا الكتاب القيم تضع الكاتبة فريدة جابر بصمتها الخاصة في عالم الترجمة ونقل الحضارات المتنوعة إلى عالمنا العربي المعاصر الذي صار يعي جيداً قيمة الأعمال المترجمة بحرفية إلى لغات أخرى، فلم تكن الترجمة يوماً فعلاً لغوياً محضاً؛ إنها عملية عبور كاملة، تنتقل فيها الأفكار كما تعبر القوافل بين المدن، حاملةً معها ما هو أعمق من الكلمات: الرؤى، والمعتقدات، والخيال الجمعي.
وعبر التاريخ، لعبت الترجمة دور الوسيط الأكبر بين الحضارات، فهي التي جعلت الفلسفة اليونانية تصل إلى بغداد، وجعلت حكمة الشرق تُدهش أوروبا، وجعلت الأدب العالمي اليوم يتشكّل من أصوات متقاطعة تتجاوز الحدود.
وقد تنوعت الحكايات في كتاب (مهرناز) بدأتها (جابر) بعمّو نورز، ثم بستان التفاح، وحسن الأقرع، والخالة خنفساء، وغيرها إلى مهرناز، التي حملت اسم الكتاب، قبل أن تختتم حكاياتها بالعنقاء والتاجر وابن الحطاب.
أما حكاية (مهرناز) فهي قصة فتاة فائقة الحسن والجمال توفيت عنها والدتها وهي طفلة لم تزل، وتزوج والدها بامرأة حقود، والتي أنجبت أختاً لها، ولكنها لم تكن بجمال مهرناز، فبدأت الغيرة وكانت تطلب منها أشياء ليس في أوانها كأن ترسلها في فصل الشتاء لتجمع لها أزهار الجوري والتي لا تتفتح إلا في الربيع، وهددتها بأنها إن لم تحضر الأزهار لن تدخلها البيت.
وتمضي الفتاة بائسة تجوب الأفق، حتى ترى أربعة شيوخ في الغابة جالسين وقد أشعلوا ناراً بغية الدفء في هذا الجو القارص، ولما اقتربت منهم وأشفقوا على حالها بدأوا في تلبية طلباتها المستحيلة، وهؤلاء لم يكونوا سوى فصول العام الأربعة (الشتاء، الربيع، الخريف، الصيف) وتوالت طلبات زوجة الأب المستحيلة والشيوخ يلبون لمهرناز ما تريده بأن يحولوا الطبيعة لها لتتمكن من قطف الثمار أو الأزهار المطلوبة، وذات مرة رأها أمير أغرم بها من أول نظرة، وأرسل والدته لخطبتها، وعندما سمع بمعاناتها مع زوجة أبيها الحقود، أرسل في طلبها وعاقبها أشد عقوبة.
وتنوعت الحكايات ما بين الإنساني والوجداني والميتافيزيقي، وكل ما من شأنه إحياء القيم الإنسانية العالية على لسان أبطال الحكايات سواء كانوا بشراً أم حيوانات، والصراعات الأزلية بين الخير والشر والنور والظلمة، وقد أجادت (جابر) صوغ هذه الحكايات في قالب أدبي شائق ممتع.
ويشار إلى أن فریدة جابر دورقي حاصلة على بكالوريوس أدب وترجمة العربية والفارسية، تعمل في في دار المحيط للنشر بالفجيرة برعاية موسسة محمد الشرقي للثقافة. وأصدرت عدة كتب باللغتين، وتترجم النصوص الأدبية والتاريخية والتي تعنى بالأنثروبولوجيا والشعر. صدر لها: "مهرناز" و"ناثر الزنابق"، "الحكمة في الشعر العربي من الجاهلي إلى عصر المماليك" -عمل مشترك-، و"الغزل في الشعر العربي (حاملو الهوى) من الجاهلي إلى العباسي" -عمل مشترك- ، كما ترجمت "حاملو الهوى إلى اللغة الفارسية(طلاية داران عشق)، و"المعتقدات العامة في الساحل الشرقي" بنسخته الفارسية. ولها ثلاثة كتب قيد النشر عن ثقافة ومعتقدات فارس وجغرافيا الأحواز والأساطير والحكمة بنسختها الفارسية ومريم الأسطرلابية، ومحاكمة العادات – تدقيق-.
التعليقات