المدن العربية بين العراقة والاستدامة
العدد 162 - 2025
جميل أن يتم دراسة الأدب من خلال علم الاجتماع، فالأدب مهما كان يتميز بخصوصية إبداعية وبسمات فنية خاصة، إلا أنه في نهاية المطاف نتاج اجتماعي، إذ يتناول الحياة وأشكالاتها وتحولاتها المتعددة، من هنا تأتي محاولة مؤلف الكتاب الحالي "علم اجتماع الأدب" د. عبد الله العرفج الذي يقول بأنه يريد منه – الكتاب – تعريفاً مبسطاً ومختصراً بعلم اجتماع الأدب وقضاياه.
يرى المؤلف في الفصل الأول أنه يمكن النظر إلى الكتابة الأدبية على أنها نتاج عملية تفاعل على نحو ما بين ذات وموضوع، لهما أبعادهما التي يمكن إدراكها بالقراءات المتأنية والمتنوعة، مع الأخذ بالاعتبار الصعوبات التي تكتنف تلك القراءة، نتيجة للطبيعة المعقدة للعلاقة بينهما، فالذات تحيل إلى فرد ذي خصائص جسمية ونفسية وعقلية واجتماعية معينة، متكونة بفعل عوامل بيئية ووراثية، والموضوع عبارة عن الأشياء والمعاني القائمة في الواقع المعيش المحيط بتلك الذات، وهو المجتمع في إحدى صوره.
كما أن عملية التفاعل بين الذات المبدعة (الفرد) والموضوع (المجتمع) ينتج عنهما شكل فني متميز وفريد، تم تشكيله بفعل لمسات الذات المبدعة اسمه (النص الأدبي).
ويضع المؤلف ثلاثة عناصر متفاعلة ومتضافرة لتشكيل العمل الأدبي وهي:
أولاً: نص مكتوب بلغة خاصة، والمقصود باللغة الخاصة أنها ليست لغة تواصلية مباشرة وإنما رمزية تقوم على المجاز والتخييل، وهي تختلف في مدى قربها وبعدها عن الواقع بحسب المبدع وتوجهه الفني والأيديولوجي، كما يختلف التفسير تبعاً لطبيعة القارئ وخلفيته الثقافية والاجتماعية.
ثانياً: ذات مبدعة للنص، وهذه الذات ليست منبتة عن محيطها، وإنما مرتبطة بتكوينات اجتماعية مختلفة ومتنوعة، وبواقعها الاجتماعي بصورة عامة.
ثالثاً: موضوع يحتوي على أشياء ومعانٍ مثيرة ومحفزة للذات المبدعة، وهذه الأشياء لا يتم نقلها كما هي في الواقع، بل يتم الانتقاء منها وتحويرها بواسطة الذات المبدعة من خلال اللغة الخاصة التي تختلف من مبدع لآخر في بعدها أو مستواها الفني.
ويتضح للمؤلف أن علم اجتماع الأدب يهتم بالجانب الاجتماعي من الظاهرة الأدبية وتشاركه علوم أخرى في ذلك، ومن أكثرها قرباً وتماساً النقد الأدبي، ومن هنا تنبع إشكاليته، كما أن بعض المجتهدين من الجانبين قد حاول فض هذا الاشتباك بينهما من خلال وضع بعض الأطر والتصورات لما يمكن أن يميز علم اجتماع الأدب والمواضيع والمجالات التي يمكن أن ينفرد بها ويدرسها كما رأينا.
ويناقش المؤلف في الفصل الثاني الخلفية التاريخية لعلم اجتماع الأدب ويستند إلى (اسكاربيه) في إشارة إلى أن تسمية علم اجتماع الأدب ظهرت لأول مرة في أربعينيات القرن العشرين في كتاب (غي ميشو) "مدخل علم الأدب" الذي نشر في إسطنبول عام 1950، وهو لا يقصد عندما أشار إلى ظهور فكرة (سوسيولوجيا أدبية) آنذاك أن نشأة علم اجتماع الأدب كانت مكتملة، وإنما بداية الشيوع لهذا المفهوم المعاصر، الذي لم يكن موجوداً من قبل في الأدبيات السوسيولوجية.
ويشير آرون وفيالا إلى عام 1957 باعتباره منعطفاً في مسيرة علم اجتماع الأدب وهو تاريخ نشأة الإجازة في علم الاجتماع كمنطلق لمساهمة علماء الاجتماع في دراسة المسألة الثقافية والأدب على نحو خاص حينما أصدر روبير اسكاربيت كتابه "سوسيولجيا الأدب" في سنة 1958، كما تأسس مركز علم اجتماع الوقائع الأدبية عام 1960 وتحول عام 1965 إلى (مؤسسة الأدب والتقنيات الفنية الجماهيرية).
ونجح لوكاتش (1885 – 1971) من خلال ابحاثه المتواصلة حول الرواية في اكتشاف الرؤية الشمولية او ما اسماه (الكليات) التي تحملها بعض الروايات وهو ما تبلور فيما بعد بمفهوم (رؤية العالم) و هو نظرة كلية متماسكة غير مجزأة يتم اكتشافها من خلال الأعمال الجيدة.
وجاء بعد لوكاتش تلميذه لوسيان غولدمان (1913 – 1971) الذي يعد بحق المؤسس الحقيقي للنظرية البنيوية التوليدية أو التكوينية التي تدرس الأعمال الأدبية (المتميزة) الخالدة بحثاً عن بنية دالة معبرة عن الحالة العقلية لجماعة مجددة أو طبقة معينة.
في الفصل الثالث يبحث المؤلف في موضوع العلاقة بين الأدب والمجتمع، فيرى أنه يمكن التقاط بعض الصور الأولية للعلاقة بين الأدب والمجتمع من خلال بعض التعبيرات التي ترد في كثير من التحليلات النقدية لوصف مضمون بعض الاعمال مثل: تصوير، انعكاس، مرآة، مع ربط هذه المفردات بأوضاع اجتماعية معينة من الواقع، ويقول بأنه مهما حاول أصحاب تيار (الانعكاس في الأدب) التخلص من مفهوم الانعكاسية واستعارة المرآة المشهورة (الفن مرآة الواقع) بتصور المرآة منحرفة أو مشوهة (بيير ماشيري) ثم رفض استعارة المرآة، فإنهم يظلون (مرآويين) بدرجات متفاونة من الفهم لما تفعله المرآة بالواقع، أو لكون المرآة التي يتصورونها مصنوعة من بلور فائق الصفاء أو فقير مبقع، ذلك أن عملهم يصدر جوهرياً عن اهتمامات تكوينية، عن ولع باكتشاف الجذور والانعكاسات.
إن الرؤية الجديدة التي تتجاوز الانعكاسية وبنيوية جولدمان التكوينية هي من أسست لما عرف بعلم اجتماع النص الأدبي.
ويوضح المؤلف بأنه على يقين بأن الأدب ليس نقلاً حرفياً للواقع أو نسخاً له وإنما هو انفعال به وتحوير له من خلال معايشة تجارب حياتية معينة، قد يبدو أنها معبرة عن حالة فردية لكنها في الحقيقة ممثلة لحالات كثيرة وأحداث وإشكالات نمطية متكررة، تعبر عن قطاعات أو شرائح عريضة في المجتمع.
وفي الفصل الرابع، يبحث المؤلف في الاتجاهات النظرية في علم اجتماع الأدب ويصنفها إلى أربعة اتجاهات رئيسة تتمثل في: الاتجاه الامبريقي، الاتجاه الماركسي، البنيوية التكوينية، واتجاه محتوى الشكل.
وفي الفصل الخامس يتناول المؤلف طرق البحث في علم الأدب (من خلال محمد حافظ دياب، عبد الباسط محمد) : 1- تحليل الدورة 2- دراسة الحالة 3 – القياس السوسيومتري 4 - الأسلوب الإسقاطي.
ويتناول في الفصل السادس معوقات علم اجتماع الأدب التي تتمثل: أولاً في الطبيعة الخاصة والمعقدة للظاهرة الأدبية، والتي تشكل أحد التحديات التي تواجه الباحث وعلم اجتماع الأدب، ومصدراً للصعوبة التي تحيط به والتي حدت من سرعة تقدمه أسوة بالفروع الاخرى.
والمعوق الثاني يتمثل بعدم توفر المراجع الكافية، وهذه الصعوبة ما زالت قائمة خصوصاً في العالم العربي الذي تندر فيه الكتابات باللغة العربية في هذا المجال. أما المعوق الثالث فيتمثل في عدم إلمام الباحثين في هذا المجال بمشاكل الإبداع الفني، بل جهلهم التام به.
التعليقات