مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز

مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز
مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز

تعد تجربة الدكتور عمر عبدالعزيز الروائية حالة خاصة تميّز بها على مدار مشواره الإبداعي، حيث منحها الكثير من الوقت والمثابرة، ليجهد عقله المتخم بالأفكار والأخيلة، كي يستجلي مكنونات ذاته، من خلال لغته البكر وقواميسه (العمرية)، ليدهشنا كعادته بأعمال حفرت في ذاكرة الإبداع العربي المعاصر.

ويضع اسمه في هرم الإبداع المتواري خلف غيوم ذاكرة الوجد، ونفس باحثة عن معارج الروح إلى التكامل مع الأنا والأنين، والتجلي المتسم بالروحانية تارة، والعقلانية تارة أخرى، تاركاً المتلقي يجد النهاية المحتومة، التي تتوافق ومعطياته وتصوراته. راسماً لوحة زاهية الألوان، قاتمة بعض الشيء عند حوافها الدائرية؛ حال الكون المتسع الذي ندور في فلكه ومداراته اللامتناهية.

ولا شك أن رواية (مهيرة) التي قدمها عمر عبدالعزيز أخيراً عن دار (أوراق) شكلت تتمة الهرم السردي للسير الغيريّة، الذي يتوج مشروعه الروائي، هذا المثلث الذي تتحد أضلاعه في إبراز شخصية الكاتب المتيم بالطبيعة والفنون وأبجديات السرد المطلسم بالحنين والجنون والصمت والتجلي حيناً، والماورائي حيناً آخر.

فإن رواية عبدالعزيز (مهيرة) هي تتمة ثلاثية الكاتب في أدب (سير غيريّة) التي بدأها برواية مريوم في العام 2015، ثم ثناها برواية الشيخ فرح ود تكتوك – حلال المشبوك – في العام 2018، وأخيراً رواية "مهيرة" 2024م.

وقد اختار الكاتب تناول سير غيرية كلهم - كما وصفهم - جاؤوا من اللامكان، وعاشوا في اللازمان، وثلاثتهم كانوا يفعلون ما لا يتوقع، ولا يستوعبه عقل؛ فمريوم، تلك المجنونة المعتمدة في حارة النوارس والأسماك السابحة في الرطوبة الجوية المنتشرة في صيف دبي، عاشت في ثلاثينيات القرن المنصرم، ومن بعدها ظهرت مهيرة بالشارقة، والقاسم المشترك بين مريوم ومهيرة كما يقول السارد العليم: يقف عند الجمال الخلاسي والروح المتوثبة لاكتشاف ما وراء الآكام والهضاب، والعلاقة الحميمة بكائنات الأرض والسماء، والتخلي الإجرائي عن أسباب الدنيا الفانية، لهذه الأسباب تحولتا إلى (عنقاء مُغرب) ووقفتا على (جبل قاف) المتعالي فوق السحب.

أما ثالث هذه الثنائية.. فكان من خلال شخصية الشيخ فرح، الذي ولد وعاش في السودان قرابة القرن السابع عشر الماضي، والذي ينحدر من قبلية البطاحين العربية فرع العبادلة، التي استوطنت شمال السودان، وعرف بالحكمة والفراسة والأقوال الخالدة عنه.

مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز

ولأن عمر عبدالعزيز مفكر موسوعي في المعارف الأدبية والعلمية ولديه قدرات لغوية فائقة وإمكانيات كبيرة في ترويض اللغة واشتقاقاتها وترادفاتها، حتى كوّن معجماً خاصاً به، عصيّ على التقليد، طيّع على الفهم، فقد واشج في (مهيرة) بين هذه الشخصيات الثلاث، وذكرهم في الرواية - متعمداً- وأعطاهم مساحة في السرد، جاعلاً منهم أبطالاً "غيريين" إلى جانب "مهيرة" وبخاصة (مريوم)، ليضع يدنا على متوالية سردية، قدمت لنا لوحة ذات ألوان مبهجة للنفس الباحثة عن الحرية في تخوم المجهول، وأحياناً قاتمة كالمصير الذي يرافق ثلاثتهم، كونهم ترفعوا عن كل مألوف، واستأثروا بمعارف غيبية متوارية عن عوالمنا المنفتحة على العقلانية ومنْطَقة الأشياء، من خلال عمل روائي.. أعتقد أنه تجميعي لمسيرة كاتب في السير الغيرية الغرائبية.

فمهيرة نص مفتوح على كل الاحتمالات والانزياحات والتجليات الماورائية، كونها حالة إنسانية تتكرر عبر كل العصور، وتكثف نكبات الحياة المتوالية، والسائدة في تاريخ هؤلاء المهمشين على خريطة اللاوعي، الذين لاذوا بالفرار عن طوفان الرغبات والتطلعات المتعارف عليها في محيطنا التوسعي، واختاروا مساحة ضيقة يطلون منها على عوالم من النقاء والطمأنينة، والتخلي؛ ليدركوا معنى التجلي كما وصفهم جلال الدين الرومي.

فعمر عبدالعزيز يضعنا من خلال بطلة روايته أمام حالة من التغريب والاستلاب، لا تجد لها خلاصاً مع أشقياء الناسوت، تلك هي المعادلة المستمرة على هذا النحو الاندهاشي، في كل التاريخ البشري، وصدق غرائبه.. وسقوطه الحر.

وتبزر لنا من بين ثنايا الرواية شخصية نور الدين، الذي صاغه الكاتب كما لو كان يصف ذاته التي يبحث عنها طوال مسيرته الأدبية التي امتدت لعدة عقود. خلاف شخصية جاسم التي وصفها الكاتب في روايته بالباحث عن الرغبات الحسية، وهنا نجد ثنائية أخرى بين الرغبات الحسية أمام المعنوية، من خلال شخصيتي جاسم ونورالدين.

والرواية تتناول قصة فتاة عرفها أهل ديرة الشارقة في النصف الأول من القرن العشرين، لم تكن تختلف عن جموع الفتيايات البحراويات إلا في قامتها الخلاسية المديدة، ولونها العنبري المضمخ بالأنسام الزكية، حتى إن عبورها اليومي من درب الحارة الممتد من البحر إلى البحر كان بمثابة مناسبة لكرنفال رائحة شجية تخرج من أعطافها لتنشر أريجاً من سندس ياقوتي فيه الرائحة المثيرة مع طيف جسدها الممشوق الذي كخيزرانات الأيام الخوالي..

بهذه الافتتاحية وصف "عبدالعزيز" "مهيرة"، وبحنكة السارد العليم يعطينا مفاتيح شخصيته الغامضة، التي جعلت مجرد عبروها اليومي مناسبة لتجليات ماورائية غامضة، فقد قال بعض مشاهديها وعارفيها: إن تلك الجولة النهارية لفتاة الأحلام الغامضة ترافقت مع تحليقات فراشات البحر وشقشقات طيور البرّ، ومواء القطط التي بألوان قوس قزح.

ويوغل المؤلف في تعلق كل الأشياء بمهيرة من بشر وحجر وبحر ونباتات وحيوانات وحتى الأسماك والحيتان والأنسام، فكل شيء هنا صار متيماً بمهيرة؛ تلك البنت التي قيل عن سبب تسميتها لأنها كانت مهرة خلاسية فاتنة، وقيل أيضاً إن ذلك اللقب أطلقه عليها عشاقها المفتونون بها، والذين كانوا يتنافسون في مطاردتهم اليومية لها، غير أنها لم تكن تعول على قوافل الشباب المتعطشين للوصول إليها؛ لأنها كانت مخطوفة بحبها الغامض لفتى أحلامها المتواري في بحار الغيوب وزمن السديم الأقصى للمكان والزمان.

مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز

وقد وصفت بأنها تعاني من نوبات صرع لا تدوم إلا دقائق معدودات ترافقها لهج لسانها بلغات غير مفهومة لعامة أهل الفريج، ولكن راكبي أمواج البحر سرعان ما يتعرفون على تلك اللغات فهي تارة سواحلية، وأخرى أوردية، وأحياناً إنجليزية سكسونية.

وكانت "مهيرة" على علاقة تآلفية مع كل الحيوانات المحبة لنقاء روحها، ورفقها بهم، والتي كانت تصاحبها في أغلب تحركاتها وسكناتها، حتى إنها أوجدت لغة خاصة للتفاهم مع تلك الكائنات المتيمة بها! على خلاف البشر الذين ظنوا أنها "سهلة المنال" كما بدا ذلك من خلال شخصية "جاسم" الجاسم الذي عرف بحبة للموسيقى والإنشاد، والتوله بمهيرة، حد الجنون، وسعى مراراً للنيل منها، حتى إنه قيل بأن لجوء "جاسم" للسحر الأسود كان سبباً لوقوع "مهيرة" في براثن المرض النفسي، على خلاف نور الدين المولع بالألوان والفلسفة والجمال.

وتمضي أحداث الرواية حتى يحدث الحريق الثاني، والذي يودي بحياة البطلة، في مأساة شهدها الجميع، ولسان حالهم يلهج بقول محيي الدين بن عربي:

ما عليكم من نارها فهي نورٌ هكذا النور مخمدُ النيران

مهيرة.. مريوم.. وفرح ود تكتوك.. ثلاثية الصمت والجنون والتجلي.. في أسفار عمر عبدالعزيز

فما بين حريقين أولهما تخيلي، والثاني حقيقي، تمضي (مهيرة) إلى مصيرها الأبدي، تاركة عوالم الشارقة.. والتي غمرت بأمطار موسمية في سبعينيات القرن الفارط، لتعيد إنتاج مهرجانها الطبيعي السنوي في أيام الشتاء، - كان هذا (الغمر) حالة وسطية بين حريقي (مهيرة)-.

وقد تناول السارد العليم حقباً متباعدة وأحداثاً متعاقبة مرت بها الشارقة. من خلال الرواية التي وثقت العديد من هذه الوقائع والشخصيات، التي مرت من هنا، وصارت في ذاكرة التاريخ الآن.

وظلت مهيرة حاضرة في ذاكرة مجايليها من أهل الحارة، ومن بعد موتها ظهرت بعض الحكايات والتصورات عن ومضات لها، كانت تلوح في الأفق لبعض الشخصيات والبهاليل، الذين سلكوا نفس مسلكها، أو بدأ الناس ينتبهون لوجودهم بينهم.

وحينما تطالع رواية "مهيرة" والأثر الذي تركته بعد موتها تلوح في الأفق رائعة نيكولاي غوغول (المعطف) - والتي قال عنها عمالقة الأدب الروسي (كلنا خرجنا من معطف غوغول) هكذا اعترف ديستويفسكي وهو يتحدث عنه- والذي تناول في قصته شخصية البطل (أكاكي أكاكفيتش) الذي عاش ومات لم يذكره أحد، ولكنه تحول - بعد وفاته كمداً على فقد معطفه - إلى أسطورة عرفتها روسيا كلها. فبعد مماته لهجت كل الألسنة بذكر اسمه وقد كان في حياته نسياً منسياً، كذلك هو الحال في شخصية "مهيرة" التي عرفها الجميع بعد رحيلها، وخلدها "عبدالعزيز" في روايته.

ويشار إلى أن الدكتور عمر عبدالعزيز كاتب ومفكر عربي، له الكثير من المؤلفات والأطروحات والسرديات، والمعارض الفنية، وقد أثرى المكتبة العربية بالكثير من إبداعته الأدبية والنقدية والعلمية.

التعليقات

فيديو العدد