هيلين كيلر الكاتبة التي لا تعرف خط يدها

هيلين كيلر الكاتبة التي لا تعرف خط يدها
هيلين كيلر الكاتبة التي لا تعرف خط يدها

تقول: "إن ما أبحث عنه ليس هناك في الخارج، إنه هنا بداخلي". إنها تلك الكاتبة التي لا ترى ولم تسمع أو تتكلم، وبفضلها اخترعت الكتب الناطقة. واحدة من أبرز النساء؛ وأكثرهن بُرهاناً على أن المرأة: إن أرادت فعلت ولو أحدثت فرقت وإذا أثرت بصمت بأصابعها العشرة. فاستشعرت معها كل الأشياء من حولها، وتعلمت مسمياتها ثم عبرت عنها بالإشارات، وبعدها مكنتها الحروف التي عرفت كيف تقرؤها فوق الورق المقوى البارز من ترتيب الكلمات وأنشأت معها تركيب الجمل. حتى مهد لها إتقانها لأبجدية برايل من تعلم الكتابة بقلم الرصاص كي تشرح لمن لا يفهم بالطريقة الأولى، ثم راحت تتبع منهج تادوما عن طريق وضع أصابعها على شفتي المتحدث واليد الأخرى فوق حنجرته، مهجئة معه الأحرف إلى أن نطقت بها؛ فماذا كانت الكلمة الأولى لهيلين كيلر؟

"لم أعد خرساء"

قبل عيد ميلادها الأول بدأت المشي وبعد أن اقتربت من عامها الثاني عام 1882 في مدينة توسكومبيا بولاية ألباما الأمريكية، أصيبت هيلين كيلر بمرض رجح البعض بأنه الحمى القرمزية وآخرون افترضوا أنه أقرب إلى السحايا، إذ عطل معه ثلاثاً من حواسها مرة واحدة. فأصبحت حينها كمن يولد مجدداً، ومن حولها شقيقان يعرفانها ولا تعرفهما. وقد وقفت مارتا واشنطن ابنة طباخة العائلة إلى جانبها حتى وصلت لسن السادسة، إذ بفضلها بدأت بإصدار بعض الإشارات للتعبير عن رغباتها. ثم عرضها والداها آرثر كيلر وكيت كيلر إلى غراهام بيل وهو ما رشح لاصطحابها إلى معهد بيركنز للمكفوفين وسط بوسطن، حيث كانت معلمتها آن سوليفان مع دمية التهجئة في انتظار أن يُرافقنها لـ 49 سنة قادمة. وكان أول شيء فعلته المعلمة سوليفان مع كيلر الصغيرة هو اصطحابها إلى مضخة المياه وعندما تناثر الماء على يدي الأخيرة، مدت أصابعها فوقها لتطبع حروف الكلمة الأولى فنطقت هيلين كيلر قائلة: م م م ا ا اء ء ء؛ وفي ذلك اليوم من عام 1888 تعرفت على 30 مفردة أخرى.

أن تقرأ بأصابعك

قطعت ابنة كيلر شوطاً تأهيلياً مع الآنسة سوليفان التي كانت تضغط بأصابع الأولى على كل حرف في الإنجليزية مع ما يقابله في اللغة البارزة، وعلى هذا النحو جاء تعلم الأبجدية العادية التي عرفت معها الفرق بين الأسماء والأفعال، بعد أن كانت تواجه الكثير من المشقة لاستيعاب ما تعنيه مفردات مثل: (يشرب) و(لبن) و(كوب). ولكي تتعرف على الشيء كانت تستخدم الحركة الاحتكاكية مع الأشياء من حولها لأجل المعرفة والتعرف عليها.
في عام 1889 انضمت إليها سارة فولر من مدرسة هوراس مان للصم في ماساتشوستس، لتبدأ رحلتها في تعلم قراءة الشفاه بالتمرن على طريقة وضع الإبهام على حنجرة المتحدث والسبابة على زاوية فمه والإصبع الأوسط على أنفه لتحسس الذبذبات، وقد انقضت فترة طويلة قبل أن يصبح باستطاعة أحد أن يفهم الصوت الذي كانت تصدره، فبدأ صراعها من أجل تحسين اللفظ. ثم جاءت بولي طومسون التي تضررت عيناها بعد أن أجهدتهما بالقراءة الطويلة لها، إذ لم تعتمد صاحبة البصيرة على مواصلة التعلم بلغتها الأم الإنجليزية فقط، وإنما أتقنت إلى جانبها كُلاً من اللغات الفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية.

هيلين كيلر الكاتبة التي لا تعرف خط يدها
الكتابة عن العمى

لم تتوقف هيلين على الرغم من صعوبة الحياة التي عاشتها، بل كان الاتجاه للكتابة هو التَّحدي الأكبر الذي خاضته؛ إذ أدت المرافقة الطويلة بين آن وهيلين إلى اتهامها بالسرقة الأدبية، من حيث إن ما خطته لم يكن سوى أفكار أخذتها بعد تقاربها من مُعلمتها الأولى. لكن التاريخ – كما يقال- ليس أعمى، فهو يعرف من يكتب! فبعد أن طورت مهارات لم يقترب منها أي شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة آنذاك، فتحت الأعيُن من حولها عندما قررت أن تبدأ الكتابة عن العمى، فجاء إدوارد دبليو بوك وصفق لإصرارها يوم مهد لها الطريق الأول في عالم النشر، ضمن مجلة ليدز هوم جورنال التي كتبت فيها عدة مقالات شكلت فيما بعد المسودة الأولى لسيرتها الذاتية.

وعند التحضير لمخطوطاتها، استخدمت آلة كاتبة بطريقة برايل ثم نسختهم على آلة كاتبة عادية بنفسها، لتنشر بذلك أول كتاب لها بعنوان "قصة حياتي" عام 1903، والذي غطى رحلتها حتى سن 21 تقريباً، وهو من الأعمال التي ما زالت حية وتدرس إلى يومنا هذا كونه يتناول موضوع تعليم ذوي الإعاقة. ليكون في جعبتها نحو 18 كتاباً ترجمت إلى 50 لغة، وما يزيد على 475 خطاباً، بينما لم تقتصر مقالاتها على الداخل الأمريكي فحسب، وإنما اتجهت نحو وحشية النظام النازي والتمييز الذي واجهه أمثالها تحت نظام هتلر، ونتيجة لذلك قيل بأن الطلاب الألمان قاموا بحرق أعمالها، التي تعتبر من أهم مؤلفاتها: "أضواء في ظلامي".

قبل أن تتم الثمانية والثمانين بأسابيع قليلة ارتفعت روحها بينما أُحرق جسدها ليُضم رماده بجانب من كانتا لها العين والأذن، سوليفان وطومسون، في كنيسة القِدِّيس جوزيف بكاتدرائيّة واشنطن؛ ليُكتب في نعيها: "كان يمكن أن ترى وتسمع بحدة استثنائية". بينما قال عنها السناتور ليستر هيل خلال تأبينها: "ستدوم روحها، طالما يستطيع المرء القراءة ويمكن سرد القصص، عن المرأة التي أظهرت للعالم؛ أنه لا حدود للشجاعة". وكانت هيلين كيلر قد قالت من قبله: "نادراً ما أفكر في حدودي وهي لا تجعلني حزينة أبداً، ربما تكون هناك لمسة من الشوق في بعض الأحيان، لكنها غامضة".

نُصب لها تمثال برونزي في مبنى الكابيتول بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي عند مضخة المياه في سن السابعة من عمرها، حيث تعلمت كلمتها الأولى.

التعليقات

التعليقات: 2
محمد العيساوي
07-07-2024
أعجبني الإصرار على الكتابة رغم التحديات التي أراها مستحيلة في وقتنا الحاضر، لكن حُب الكتابة أزال المستحيل . شكرًا هيلين كيلر شكرًا للكاتبة العظيمة : هنادي العنيس على المقال رائع
Ahmed Nour
03-07-2024
نص ممتاز، وممتع . الأسلوب أيضا يجعل القارئ يعيش الحالة بكل جوارحه وكأنها مشاهد حية. تحياتي للكاتبة هنادي على حسن السرد.

فيديو العدد