رواية "ملمس الضوء" صورة الحواس القارئة
العدد 164 - 2025
كيف تتعامل حاسة البصر مع الواقع في حالة الإعتام؟ وكيف تسرد بلغة متخيلة لغة بصرية مستمدة من الواقع بأحداثه وشخوصه وأمكنته وأزمنته؟ وكيف يرى الإنسان الكفيف نفسه وأحلامه وعائلته والمجتمع والعالم؟ وكيف يصوغ ما يراه في أعماقه لغة يومية، أو حكائية، أو شعرية، أو فلسفية، أو نفسية، أو فنية بين رسم وغناء وتأليف موسيقي؟ وكيف يعوض هذه الحاسة في تعامله الحياتي؟
أن تكون البصيرة رائية فتلك نعمة تفوق جميع الحواس، وهذا ما نعلمه جميعاً: ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾، ولذا، ومن تجارب الحياة أن هذه البصيرة كحاسة قلبية وروحية تجعل من يفقد حاسة من حواسه إيجابياً ومتفوقاً فيما إذا امتلك قوة الإرادة والتفاؤل، ولربما تفوق على الأصحاء بدنياً وحواسياً، بل ويعلّمهم الكثير فيكون قدوة في الحياة، وهذا ما أضاءه العديد من العلماء والأدباء والناس العاديين، ومنهم نذكر "هوميروس" شاعر "الإلياذة والأوديسا" الذي فقد حاسة البصر، وكذا "أبو العلاء المعري" الذي خلّدته بصيرته في أشعاره وفلسفته، وكلنا يذكر "رسالة الغفران" التي استند إليها "دانتي" في كتابه "الكوميديا الإلهية"، ومن ينسى طه حسين مثلاً؟ ومنهم من كتب عن فقدان الحاسة، وأبرزهم "خوسيه ساراماغو" مبدع رواية "العمى"، بينما ينقلنا "روبرت هاين" إلى مرحلة عودة البصر بعد (15) عاماً من الظلمات في كتاب السيرة "فرصة أخرى ـ رحلة إلى العمى"، وهو ما عانى منه وتأقلم معه الكثير من الناس عبْر التاريخ.
وضمن هذه الشبكة المضيئة للداخل من خلال نوافذ أخرى للروح نقرأ رواية "ملمس الضوء" التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية عام (2025) للكاتبة الإماراتية نادية النجار الحائزة على العديد من الجوائز والتكريمات، منها (جائزة معرض الشارقة الدولي للكتاب_ فئة أفضل كتاب إماراتي)، (جائزة الإمارات للرواية العربية)، (جائزة العويس).
فكيف تناولت الكاتبة فقدان حاسة البصر موضوعياً وفنياً، علماً أن الروايات العربية لم تتناول هذا الموضوع كما يجب، إضافة لما يخص (ذوي الهمم ـ الاحتياجات الخاصة) كما فعلت النجار حتى في قصصها الموجهة للأطفال، مثل (أصوات العالم ـ وبطلتها طفلة صمّاء)، و(نزهتي العجيبة مع العم سالم ـ عن العمى أيضاً)؟
اعتمدت الروائية نادية النجار على تداخُل المَشاهد بطريقة "سيناريوهاتية" متأقلمة مع الحياة الإماراتية بمحليتها المتنوعة، تاركة لبطلتها (نورة) الكفيفة الأريحية في الوصف والحكي والتخيل وإنشاء لغتها البصرية الداخلية بين المذكرات واليوميات، معتمدة على التصوير المشهدي وتفاصيله الصغيرة والكبيرة تصويراً يتحرك بين الذات والبيئة، بين الخيال والواقع، بين الإحساس الرهيف وتحولاته عبّر العناوين الرئيسة المتشكلة من أربعة أبواب لأربع حواس: (باب الصوت، باب الرائحة، باب المذاق، باب اللمس)، المؤلفة، بدورها، من (37) عنواناً فرعياً، تناسبت مع تراسُل الحواس واختلاطها مع الأحداث من حريق وزفاف وموت وحرب وجنازة وحب وعواطف وقلق وذكاء اصطناعي يرى من خلال العدسة، ويترجم من خلال تطبيقاته وبرامجه ما يراه إلى إشارات مساعدة للكفيف أو ضعيف البصر، ومن تلك العناوين ما يذكّرنا بملحمة "جلجامش" : "هو الذي رأى كل شيء/ ص 48"، الملحمة التي تستمع إليها "نورة" من المكتبة السمعية مع كتب أخرى في مجالات مختلفة مثل الشعر والأغاني والروايات والقصص.
وتشكّل هذه العناوين مجتمعة شبكيّة مرتكزة على القيم الإنسانية موضوعياً، بينما ترتكز فنياً على التضاد بين الظلام وتدرجاته، والضوء وتدرجاته، وتلتقي هذه المتضادات في نقاط متحركة في نَصّ الرواية لتتمحور حول المؤثرات والوسائل المساعدة للبصر، وهو ما عبّرت عنه دلالات كثيرة منها اسم البطلة الوارد في رسالة هاتفية من "سيف": "النور يذكّرني بك لأنه يرتبط باسمك/ص 83"، وعناوين متعددة تحمل اسم الضوء صراحة، وتنضم إلى عنوان الرواية "ملمس الضوء"، الجامع بين ثنائية المجسّد "اللمس"، والمجرد "الضوء"، خصوصاً، في الخاتمة، عندما تقف في دوائر الضوء (ص/245) دون أن تدرك ما هو الضوء المادي، فتحاول اكتشافه وملامسته ببصيرتها وعفويتها ونقائها الداخلي.
وضمن هذه المثنوية المتآلفة تتشكّل حاسة للذات الكفيفة لا تقتصر على مساعدة "إيفلين" و"العصا البيضاء" ووسيلة "برايل" الخاصة بالقراءة، والتي تظهر في مراحل متأخرة من الرواية، بل تشمل حواس البطلة التي تلمس الضوء، أيضاً، من خلال تفاعلها مع كل شيء في عالمها بوساطة تداخُلات حواسها، إضافة لتوظيفها للأجهزة التكنولوجية ووسائلها وبرامجها الحديثة في القراءة والاطلاع والتراسل والتواصل والمشاهدة مثل برامج الذكاء الاصطناعي، مثل "سيينغ آي ـ Seeing AI"، و"بي ماي آيز ـ Be My Eyes / ص 105"، منجزة محاورات مشهدية مباشرة، تبدأ بتجريبها باختيار فستان بلون "اللافندر" وتربط رائحته مع اللافندر اليابس الذي يهديها إياه ابن عمها "سيف" حيث تتفرع الرواية، أيضاً، إلى مجال وجداني عاطفي تنسجه "نورة"، وتراه، وتحكيه للوصول إلى ماهية ومفاهيم العالم المحيط كصورة كبرى تشكّلت من الصور المتلاحقة بعناوينها الروائية، مما يجعلها رواية مركّبة من تفكيك صور تضخّ الذاكرة مع الحاضر بينما تحكي عن ذكرياتها وشخوصها، وصور تتكون من ذلك الماضي لتنضفر مع اللحظات اليومية من مذكرات وسيرة جدها (سالم) ووالده (علي) الذي عمل في المنامة لدى (ناصر بن صالح البحريني) الذي حجّ واتجه برحلة إلى بلاد الشام، وتزوج من الكفيفة (ماري حنا) في بيروت، فأنجبا (سارة) التي أحبها (علي) وتزوجها وأنجبا (سالم) جد (نورة)، وكانت هذه المورثات سبباً في فقدان البطلة لحاسة البصر.
وتتداخل هذه المرحلة من عشرينيات القرن الماضي ومعطياتها مع المستقبل الذي تحلم به البطلة، وذلك ضمن متواليات الحكي المنجزة لسيرتها والعائلة والخليج والعالم من خلال صور جدها الضابط الذي تمتع بهواية التصوير (سالم بن علي)، وهي تتضح مع الصفحات، لافتة إلى فقدانها للبصر الذي كان نتيجة زواج الأقارب وهذا ما تصرح به في باب الرائحة صرخة توعوية في الصفحة (83).
تجتمع صور الحياة المحكية والمسرودة في الرواية من خلال تقنيات فنية متنوعة منها "السيناريو" كمحور أساسي وهذا ما يجعلها رواية قابلة للتحويل إلى الشاشة، أو المنصة المسرحية، خصوصاً، من خلال اهتمامها بتفاصيل التفاصيل، واعتمادها على الوصف الواقعي والإشاري والتصويري والوصفي العادي الذي لم ينجُ من الحشو أيضاً ـ وليت الكاتبة اختزلته لصالح كثافة السرد ـ وارتكازها على لغة تتحرك بين الشعرية تارة، والواقعية المتماهية مع "البيضاء ـ بين الفصحى والعامية" تارة ثانية، واللهجة المحلية تارة ثالثة، وتداخلاتها مع "السيناريو" المتركّب بمشهدياته من الصور المعالجة ضمن "صورة داخل صورة" وهو مصطلح أستعيره من طريقة عرض "أفلام الفيديو" بالطريقة التكنولوجية المعاصرة، لتتوالد وتتناسل وتتراكب في مدار "المونولوغ" الذاتي، ومدار "الديالوغ" الذي يحضر فيه القارئ بإشارية ما، إضافة إلى الشخوص المتحاورة، ليساهم في قراءة الصور وكتابتها، وهو ما فعلته الروائية.
وما بين الوصف والتأمل والتعبير عن الذات والمجتمع والمحيط والحوارات تبرز مسافة نصيّة تعتمد على التصوير الحكائي والمشهدي إضافة لقراءة الصور، وفي هذا الفضاء التصويري تظهر ملامح المكان وذكرياته، وأبعاد الزمان وفقراته التاريخية، والإنسان وعواطفه، وتدخل الأحداث الشخصية والعامة من بوابات الصور والعناوين إلى أثرها الرجعي "الفلاشباكي"، فتظهر حياة الأجداد بمحليتها الجميلة، وطريقة حياتها اليومية، وما ترافقه من تفاصيل متبادلة بين الأمكنة الإماراتية وغيرها، مثل دبي والشارقة ورأس الخيمة والبحرين، وتفاصيل متشابكة بين الشخوص، ومنها الجدة "مريم" والحفيدة "نورة" التي تنقل لنا مشاعرها: "جدتي مريم كما هي دائماً، لا تتغير. ليست ودودة ولا شريرة. قليلة الكلام، وحريصة عند الحديث معي، تشبه في ذلك أبي. أشعر بأن هنالك حاجزاً بيننا يكبر مع الزمن، ويمنعني من فهمها/ص22".
وهذا الحاجز هو ذاته الذي كبر بينها وأبيها المتزوج بأخرى، غير المكترث بها وأمها تبعاً لإحساسها الذي تنقله للقارئ عاكساً مشاعر باردة من الأب والجدة والدته، رغم أنه كان الضوء الداخلي للبطلة، وأملها الوجداني، بينما يبرز حاجز آخر بين البطلة والرواية، كونها اعتمدت على قراءة الذاكرة العامة لمجتمع الرواية المحلي والعربي والعالمي من خلال صور جدها لأمها، فتنقطع عن ذاتها أحياناً، وتعود إليها بعد عدة صور وعناوين، وما إن تظهر حتى تعود لحكايتها مع معاناتها مع حاستها كما في الصفحة (177)، وما بين هذه الانتقالات تستطيل إيقاعات الجملة الحكائية أحياناً، ويتباطأ السرد، مما يجعل القارئ يفقد بعض التشويق وهو يتابع هذا المعرض التصويري المعلّق في صالة الرواية بخيوط بنيتها المتشعبة.
وتعود الأحداث من تلك الذاكرة وصورها وتصورات البطلة إلى الحاضر المعاصر المتداخل بلغة أجنبية أحياناً، لكنها معتادة في الحياة، مثل "المانجو فلوت ـ ص57"، وتتحرك بين العالمين الواقعي والافتراضي مدعومة بالبرامج التكنولوجية المساعدة على الوصف الذي يتحول إلى لغة بصرية تساعد الكفيف على الإحساس باللمس والمخيلة فيبدو وكأنه يرى، مما يكمل مساعدة الآخرين له، وهو ما يحدث مع بطلة "ملمس الضوء" من خلال أمها وخادمتها "إيفلين" وأفراد العائلة ومجتمع الرواية، وتكتمل زوايا الرؤية من خلال الاعتماد على الحواس الأخرى، ومنها حاسة الشم، وما تحمله الروائح، من دخان الحرمل، والبخور، والعطور المحلية مثل دهن العود، وتنضمّ الرائحة إلى المؤثرات الأخرى وتأثيراتها على الحالة النفسية والذهنية والذاكرة المتشعبة المتفرعة إلى التراث الإماراتي المعنوي والمادي والفلكلور الشعبي الإماراتي والعربي والعالمي، وذلك ابتداء من يوميات السيرة ولباسها وبيئتها وطبيعتها بين بحر ورمل ومساكن ونخيل، وطعامها مثل "خبيصة الجدة ـ الحلوى"، وصولاً إلى القصص والحكايات والخرافات ومنها "بودرياه" و"سويداخصف"، عبوراً بالحاضر، مما يمنح تصورات عن مراحل متنوعة من التاريخ، خصوصاً، (ما قبل) اكتشاف النفط في الإمارات و(ما بعده)، وكيف كان يرحل الباحثون عن رزق أفضل من الإمارات إلى الدول المجاورة التي سبقتهم في اكتشاف النفط مثل البحرين والسعودية وقطر، ومن هؤلاء الأبطال نذكر "علي ومطر وعزيز"، وكيف تتداخل هذه المرحلة مع فترة تاريخية أخرى "حرب البحرين" وما تتفرع عنه من تاريخ عالمي تشير إليه صور (هتلر) و(ستالين) و(تشرشل)، و(كوليرا القاهرة) والعديد من الأحداث التاريخية الأخرى، وكذلك تلتفت إلى زمن الإذاعات الناشئة، وجدة الكاميرات كاختراع جديد أضمر بين الأبيض والأسود إيحاءات العمى والبصر، الضوء والظلام، وكل ذلك يؤكد قراءات الكاتبة النجار مع بطلتها نورة للصور لتكتب كلامها وأحداثها وشخصياتها وخلفياتها المكانية والزمانية، معرجة على دروب كثيرة في الذاكرة العامة والخاصة، منها قصائد الشعراء كالمتنبي، ومنها البضائع المنقولة بين دمشق وبيروت وفلسطين والإسكندرية وأنطاكيا، وصولاً إلى زمن (كورونا).
ومن زاوية قرائية أخرى، نلاحظ حالة من تثاقف الشعوب التي تتم من خلال حوارات نورة ومساعدتها المنزلية الفلبينية "إيفلين"، وكيف تبدو علاقة التفاهم بينهما بمنطوق أقرب لضمير الكاتبة العالمة بكل شيء، ولا تبتعد شبكة العلائق عن هذه الزاوية التبئيرية للراوية، ومنها مخاطبة الذات من خلال الذاكرة: "أمضى سيف ليلته مع أصدقائه في أحد شاليهات مدينة رأس الخيمة، وسافر والدك مع زوجته وعائلته إلى جزر المالديف دون أن يدعوك أو يخبرك وتدّعين بينك ونفسك أن الأمر لا يهمك، وأنت يا نورة مع من؟ /ص70"؛ ومخاطبة الذاكرة والتحاور معها: "اتركيني أيتها الذاكرة الماكرة"، لتصل إلى بوحها للقارئ: "أطردها من رأسي، كما أفعل عندما تحوم ذبابة حول وجهي. أهرب منها إلى جدي. أحسب خطواتي قبل أن أخرج من باب الفيلا/ ص71".
تنتقل المشهدية السردية بصورها ومشاهدها من حكاية إلى حكاية لتعرّفنا إلى مجتمع الرواية وشخوصها القريبة والبعيدة من نورة مثل سيف والأم والأب وزوجة الأب والأجداد وسيف وعبود وسعيد وعلي و(حنا) و(مارثا) وعفيفة وحليمة وناصر، ولا يسير المبنى الحكائي بوتيرة أفقية واحدة، لأنه يتقاطع عمودياً أيضاً، فما بين ظهور حدث أو شخصية، تظهر أحداث وشخصيات أخرى، وهذا يعني أن القطْع والوصْل تمّ لإنجاز بُـعْد فني آخر في مبنى "ملمس الضوء"، تكمله رسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الافتراضية المتنوعة المتقاطعة مع تقنية نشرات الأخبار ومنطوق الإذاعة والتلفاز والرسائل التقليدية العائدة بذاكرتها إلى (88) سنة، مؤرخة بتاريخ (28 شعبان سنة 1358 هجرية" المرسلة من "علي" في المنامة إلى أمه في دبي ليطمئنها عنه و(مطر)، وكيف عمل في شركة النفط البحرينية "بابكو"، إضافة إلى حضور الصحف الورقية القديمة، كما تحضر شخصية طبيب "نورة" السوري القادم من حلب والمظاهرات وحكايته عن ابنه في دبي وصور العائلة التي افتقدها في بيته هناك: "راحت البلد وكل شيء، ناس ماتوا وتشردوا، وأنا زعلان على شوية صور/ ض104"، وهنا، يظهر صوت جدّ البطلة كاشفاً عن معنى الصور التي تتألف منها الرواية: "أتذكر كلام جدي، فأخبره بأن ما وراء تلك الصور أهم من الصور نفسها، كمشاعر أصحابها، وأفكارهم، وقصصهم، حتى إن ضاعت الصور تبقى الذكريات/ ص104".
وبمثل هذه التقاطعات تتداخل الحكايات وسِيَر الشخصيات ووجداناتها وأفكارها ومجتمعاتها لتشكّل لنا في النهاية الصورة الكبيرة لرواية "ملمس الضوء" التي تشير، ومنذ كلماتها الأولى، إلى حكمة مكثفة تركز على مفهوم العمى: "أعمى ذاك الذي لا يرى سوى ما يودّ رؤيته/ص5".
التعليقات