أجاثا كريستي

أجاثا كريستي
أجاثا كريستي

هل كان اختفاؤها عن الأنظار لمدة 11 يوماً.. انتقاماً أم اكتئاباً أم فقداناً للذاكرة؟

للقضاء على الزكام نصحت ابنتها بكتابة قصة قصيرة، رُبما لم يكن ليفكر أحد بهذه الطريقة لإلهاء طفل عن التسطح فوق فراشه طول النهار، غير أن والدة أجاثا كريستي فعلتها. ورغم أن كتابها "ثلوج على الصحراء" لم يوفق في النشر إذ تم رفضه ست مرات على التوالي وظل على الرفوف 4 أعوام أخرى، إلا أن هذا تغير سنة 1920 بعد رهان مع شقيقتها التي تحدتها في كونها غير مؤهلة لنشر عمل من تأليفها، فجاءت رواية "قضية ستايلز الغامضة" التي أدخلتها عالم الكتابة عندما قبلها أحد الناشرين بعد أن رُفضت من غيره أيضاً، إذ احتوت على مخطط للمنزل الذي تقع فيه الجريمة ورسم لمشهد الجريمة نفسها، لتُعرف قراءها على واحدة من أشهر الشخصيات في قصصها، المفتش البلجيكي هركول بوارو الذي ظهر بعدها في 41 رواية لها، وكان الشخصية المفضلة للكتابة على الرغم من اعتقادها بأنه "شخص لا يُطاق". بينما جاء إهداء العمل الأول على النحو الآتي: "إلى أمي"، لم تكن الرواية الوحيدة التي أهدتها إلى أمها، لتكمل بعدها في كتابة أكثر من مئة عمل.

خبر الصفحة الأولى

في عام 1914 كانت في الرابعة والعشرين من عمرها تحتفظ بلقب عائلتها في نهاية اسمها، أجاثا ماري كلاريسا ميلر، لكن الأمر تبدل بعد أن التقت مع أرشيبالد كريستي واحد من أسطول الطيران الملكي خلال الحرب العالمية الأولى، ومنه أخذت لقبها الذي لازمها طوال حياتها لتُنادى بعدها بأجاثا كريستي. وبعد أن أصبحت ممرضة متطوعة تخدم المرضى والجرحى بعد الحرب، حصلت على معرفة جيدة بالسموم التي توجد في العديد من رواياتها. دام زواجها 12 عاماً وانتهى الأمر بخيانة زوجها لها، لتختفي بعدها عن الأنظار مدة 11 يوماً دون أن يعلم عن مكانها أحد، خرجت إنجلترا كلها للبحث عنها مع 15 ألف متطوع من الشعب البريطاني، إذ تصدر الخبر الصفحة الأولى لجريدة التايمز وخصصت صحيفة ديلي نيوز مكافأة بمقدار 100 جنيه إسترليني لكل من يدلي بمعلومة مفيدة عن مكانها أو مصيرها، حتى عثر عليها في أحد المنتجعات تتخذ من السيدة تيريزا نيلي صديقة زوجها اسماً لها دون أن تتذكر اسمها الحقيقي بعد أن تقمصت شخصيتها بالكامل، وكانت تسأل الناس: "من أكون؟" إلى أن تعرف عليها أحد أقاربها وأكد الأطباء بعدها أنها أصيبت بفقد جزئي للذاكرة. بعد مرور ما يزيد على 90 سنة على الحادث، لا يزال كُتاب السيرة الذاتية يتناقشون فيما حدث في تلك الأيام من عام 1926، هل كان الأمر انتقاماً أم اكتئاباً أم فقداناً للذاكرة؟

جرائم سجنها ناشرون

في عام 1930 كان الجميع يعرف من تكونه أجاثا كريستي، فالروايات العشر حققت انتشاراً لمع فيه اسمها. نجاحها في هذا النوع من الكتابة جعل الناشرين يسجنونها فيه، ورفض كثيراً منهم أن تكتب في جنس آخر، وفرضوا عليها أن تستمر في الرواية البوليسية. وربما من هُنا كان التحدي الذي صحب معه قرارها في الدخول إلى عالم الرواية الرومانسية، باسم ماري ويستماكوت، الذي ظل سراً لم تكشف عنه لعقود. كتبت معه ملامح من حياتها مالت فيها إلى تحليل الداخل الإنساني، وسرحت معه بحكايات تلتقي بحب بين الأصدقاء والعائلة. فجاءت رواية "خبز العملاق" لشخصية عازف موسيقي يعاني من فقدان الذاكرة وتنتهي قصته بمأساة، ثم رواية "غائب في الربيع" التي قيل إنها قد انتهت منها بثلاثة أيام فقط. كانت تنوي التوقف عن الكتابة في منتصف الثلاثينيات من عمرها، لكن ارتفاع مبيعات رواياتها دفعها لتمديد الكتابة 5 سنوات أخرى، ثم بعدها قررت الاستمرار ولم تتوقف إلا قبل سنة واحدة من وفاتها.
بين أجاثا كريستي التي كتبت الرواية البوليسية وماري ويستماكوت التي كتبت الرواية الرومانسية، شخصية واحدة لم تكن مجرد روائية بريطانية وإن كانت تنتمي إلى عائلة أمريكية ومسحورة بحب الشرق.

مسرح حوادث إنجلترا


ظهرت في أعمالها المتعددة ثقافات مختلفة، لتدرك معها أن مسرح الحوادث ليس إنجلترا وحدها بل العالم بأسره. فقد زارت أجاثا كريستي الكثير من المناطق، مما أثرى تجربتها الروائية، من فلسطين إلى مصر، وغيرها من البلاد التي نجد لها صدى في رواياتها. إذ تحدثت عن المسجد الأقصى وقبة الصخرة وذكرت مدينة بيت لحم ومدينة البتراء، وحكت عن نهر النيل ومعابد الأقصر وأدمجت حضارة الفراعنة في بعض أعمالها، كما وصلت إلى بغداد ومدينة أور الأثرية عاصمة الدولة السومرية، واشتهر بيت شعبي لها في العاصمة العراقية كانت تهوى المكوث به، كتبت فيه بعض نصوصها، وصنفته وزارة الثقافة العراقية ضمن البيوت التراثية التي يمنع هدمها أو التعديل عليها.
وفي نينوى شمال العراق كتبت روايتها "موت اللورد إدجوير" عام 1933 بعد أن قصدت الموصل لشراء منضدة وسط منزل قليل الأثاث. أما قصتها "لؤلؤة الشمس" فمثلت تسجيلاً لزيارتها إلى البتراء في حدود عامي 1933 و1934. نشرت بعدها روايتها "جريمة في قطار الشرق السريع" 1934 والتي كتبتها في فندق بارون بمدينة حلب ووصفها بيرنارد روبرت قائلاً: "هي أفضل ما كُتب في قصص السكك الحديدية".
كتبت أيضاً في حضرة زوجها الثاني ماكس مالوان "جريمة في بلاد الرافدين" 1936 إذ دارت أحداث الرواية في منطقة أثرية بالعراق اعتمدت عليها أجاثا كريستي في وصفها المكاني بالعمل. أما رواية "موعد مع الموت" التي نشرت عام 1938 وتحديداً في فصلها الخامس وصفت ذهولها من تفاصيل بناء المسجد الأقصى ورهبة القبة المشيدة على صخرة مرتفعة وسحر نقوشه، وكذلك فعلت في شعرها "نجمة فوق بيت لحم" عام 1965. وبينما كانت في زيارتها إلى مصر حيث درست تاريخها كتبت روايتها "موت على النيل" التي حولت إلى مسرحية بعنوان "جريمة قتل على النيل" سنة 1946، كما كتبت بأم الدنيا رواية ثانية لها بعنوان "الموت يأتي في النهاية" سنة 1945، وكتبت مسرحية "أخناتون" عن الملك المصري الذي فرض ديانة جديدة، إذ استعانت بخبرة علماء الآثار في رسم شخوص المسرحية. في حين أن رواية "لقاء في بغداد" نشرت لأول مرة عام 1951، وبغداد هنا كانت الموقع الذي وقع عليه الاختيار لعقد اجتماع سري يضم قادة الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية، غير أن هذه المعلومة تسربت –لسوء الحظ- فوصلت إلى منظمة سرية تسعى إلى إفشال هذه القمة. وقد أجادت الكاتبة بمزيج من السلام والحرب وبين الدماء والقبلات في وصف بغداد، ونهري دجلة والفرات، ومناطق بابل التراثية، وأسواق بغداد الشعبية. وفي السيرة الذاتية "تعال قل لي كيف تعيش" حكت في الكتاب طريقة عيشها في سوريا.

قارىء كريستي بالإنجليزية


قُدر بيع مُجمل أعمال الروائية الكونية بنحو ملياري نسخة، وتشير ممتلكاتها إلى أن كتبها حلت في المرتبة الثالثة في تصنيف الكتب الأكثر انتشاراً حول العالم لتصل إلى كل بيت في المعمورة وأيدي مئات الملايين من الناس، بعد أعمال شكسبير وكتاب الإنجيل وفقاً لمؤشر الكتب المترجمة. وبحسب قاعدة بيانات اليونسكو لأكثر الأعمال المترجمة إلى لغات أخرى، فإن أجاثا كريستي هي أكثر الكتاب الذين ترجمت رواياتهم إلى لغات أخرى، فقد ترجمت كتاباتها إلى أكثر من 100 لغة. وقد أدرجتها موسوعة غينيس للأرقام القياسية الروائية الأكثر مبيعاً للكتب على مر العصور، إذ إن الرواية الأكثر مبيعاً في العالم بمبيعات وصلت إلى 100 مليون نسخة هي رواية "ثم لم يبق أحد"، لتحتل المرتبة الأولى كأكثر كاتبة متفردة ذات أعمال مترجمة، متمكنة بذلك من أن تجني ثمار الكتابة بتخليد اسمها إلى الأبد.
فمثلما ابتكر السير آرثر كونان دويل شخصية شرلوك هولمز وزميله الدكتور واطسون، كذلك نحتت أجاثا كريستي شخصيات الكولونيل بريس والآنسة ماربل. وقارئ كريستي بالإنجليزية يلحظ دون أدنى شك أنها استخدمت لغة وسطى سلسة وسياله، لم تكتب بلغة شكسبيرية عالية بل اعتمدت على المصطلحات المتداولة في المحادثة اليومية، ولعل هذا ما يفسر سهولة ترجمة كُتبها إلى مختلف لغات العالم، حتى اقتُبست معظم القصص القصيرة الخاصة بها لأعمال عدة في التلفاز والإذاعة وألعاب الفيديو والرسوم الهزلية، والتي كان أول ظهور للعديد منها في الصحف والجرائد والمجلات، بينما استند أكثر من ثلاثين فيلماً من الأفلام الطويلة إلى كُتبها. وأما عما يتداوله الكُتاب في العموم عن أن الكاتب ابن بيئته فإن هذه الجملة قيلت لتقف أمام أجاثا كريستي، التي أثبتت بالحرف أن الكاتب يمكنه أن يكتب عن مدينة زارها وكأنه ولد فيها، وعن أخرى سمع عنها وكأنه تغرب عنها، أو غيرهما حلم بالوصول إليها وهو يقف مباشرة عليها.

تقول عن نفسها: "ذات يوم أصبت ببرد شديد ألزمني الفراش، وقالت لي أمي خير لكِ أن تقطعي الوقت بكتابة قصة قصيرة وأنت في فراشك. فأجبتها: ولكني لا أعرف، فقالت: لا تقولي لا أعرف، ثم حاولت ووجدت متعة في المحاولة، فقضيت السنوات القليلة التالية أكتب قصصاً قابضة للصدر! يموت معظم أبطالها! كما كتبت مقطوعات من الشعر ورواية طويلة احتشد فيها عدد هائل من الشخصيات بحيث كانوا يختلطون ويختفون لشدة الزحام، ثمَّ خطر لي أن أكتب رواية جرائم، ففعلت واشتد بي الفرح حينما قبلت الرواية ونشرت، وكنت حين كتبتها متطوعة في مستشفى تابع للصليب الأحمر إبان الحرب العالمية الأولى".

التعليقات

فيديو العدد