محمد وردي ...مسيرة زاخرة وإحساس متفرد

محمد وردي ...مسيرة زاخرة وإحساس متفرد
محمد وردي ...مسيرة زاخرة وإحساس متفرد

يعتبر الفنان محمد وردي حالة فنية متفردة ومتكاملة قد لا تتكرر خلال قرن كامل إلا مرة واحدة، استطاع أن يحقق لونية متكاملة للأغنية السودانية من حيث رصانة الكلمة المنتقاة أو اللحن العبقري الذي يقوم بصياغته ليكتمل ثلاثي الإبداع بالأداء الجميل والصوت الطروب صاحب الإجماع الذوقي الراقي النافذ إلى كل الفئات المجتمعية سواء بالمدن أو القرى التي تبعد مئات الكيلومترات حيث يصل البث الأثيري عبر إذاعة "هنا أم درمان" المكان الذي يوثق لميلاد المبدع الحقيقي مجتازاً لجان صارمة تمنحه صك القبول وتمنحه جواز السفر ليلج الديار والقلوب...كان وردي يحمل موروثاً ضخماً والذي يحمله في ذاكرته وعقله الباطن من حيث ولد ونشأ..

ولد محمد وردي، واسمه بالكامل محمد عثمان حسن وردي في 19 يوليو 1932 م في قرية صواردة الواقعة جنوب مدينة عبري بشمال السودان أرض النوبة ونشأ يتيماً بعد وفاة والديه وهو في سن مبكرة فتربى في كنف عمه، وأحب الأدب والشعر والموسيقى منذ نعومة أظافره، درس وردي في مدارس صواردة ثم انتقل إلى مدينة شندي لإكمال تعليمه بالمرحلة المتوسطة.

محمد وردي ...مسيرة زاخرة وإحساس متفرد

كانت موهبة الغناء موروثة في كل الأسرة مما جعله يمتلك حساً فنياً أهّله لأن يحتل هرم الصدارة فيما بعد وكانت البداية الحقيقية له في عام 1953 م حينما زار العاصمة الخرطوم لأول مرة ممثلاً لمعلمي شمال السودان في مؤتمر تعليمي عقد فيها، ثم انتقل للعمل بها، وبدأ في ممارسة فن الغناء كهاوٍ...ولكن جاء العام 1957 م حاملاً نقطة فارقة في حياته عندما تم اختياره من قبل الإذاعة السودانية في أم درمان بعد نجاحه في اختبار أداء الغناء وإجازة صوته ليقوم بتسجيل أغانيه في الإذاعة، وبذلك تحقق حلمه في الغناء في الإذاعة بين كبار الفنانيين في تلك المرحلة الزاهرة بعباقرة الطرب الأصيل في السودان لينهي حياته العملية بسلك التدريس الذي بدأه متنقلاً بين أماكن ومواقع مختلفة.

عمل مدرساً في مدارس وادي حلفا والتحق بعد ذلك بمعهد التربية لتأهيل المعلمين، بشندي حيث تخرج فيه معلماً وعمل بمدارس المرحلة المتوسطة ثم المدارس الثانوية العليا في كل من وادي حلفا وشندي وعطبرة والخرطوم. وكانت مدرسة الديوم الشرقية بالخرطوم آخر مدرسة عمل فيها قبل استقالته من التدريس في عام 1959 م. يقول وردي عن ذلك: "إن التدريس كان بالنسبة إليّ الرغبة الثانية بعد الغناء ولكن إذا خُيّرت بين التدريس والغناء لفضلت الغناء وإذا خيّرت بين التدريس وأي عمل آخر لفضلت التدريس، وأعتقد أن الفن يعتبر أيضاً تدريساً".

تميز وردي بإدخاله القالب الموسيقى النوبي وأدواته الموسيقية في الأغنية السودانية مثل الطمبور، كما عرف عنه أداء الأغنيات باللغتين النوبية والعربية. هذا إضافة إلى ذوقية موسيقية متجددة باستمرار لتواكب كل الحقب التي عاشها مما جعله يكسب جماهيرية مخصرمة عبر تاريخه الفني الممتد وأيضاً أتاح لفنه التجوال خارج وطنه وينال استحساناً جعله يحمل لقب فنان إفريقيا الأول لانتشاره بمنطقة القرن الإفريقي.

محمد وردي ...مسيرة زاخرة وإحساس متفرد

غنى وردي للحب وللوطن وللغربة والشجن، جسّد أشعاراً كتبت بالهجر والدموع وبالعتاب والغفران..غنى للاستقلال والحرية والملاحم الثورية ظلت أغنياته أيقونة تعاقبت ترديدها الأجيال، شارك الشعب الفرح والترح، إلى أن اضطرته الظروف للغياب عن تراب وطنه فغاب جسداً وظلت أصوات جماهيره العريضة تطالبه بالرجوع، فعاد بعد سنوات ولكن عاد منهكاً من علة لازمته سنوات إلى أن غاب مرة أخيرة للدار الآخرة في يوم حزين ودعته فيه جموع غفيرة بالدموع بتاريخ 18فبراير 2012 م ، رحل تاركاً ذخيرة غزيرة تحكي ألف حكاية وحكاية بصوت طروب لامست القلب قبل الأذن وكل ما طافت ذكراه حضرت رائعة الشاعر صلاح أحمد إبراهيم التي تغناها كما لم يتغنى أحد من قبل في حب تراب الوطن وألم الغربة والأشواق..

ﻏﺮﻳﺐ ﻭﺣﻴﺪ ﻓﻲ ﻏﺮﺑته
ﺣﻴﺮﺍﻥ ﻳﻜﻔﻜﻒ ﺩﻣعته
ﺣﺰﻧﺎﻥ ﻳﻐﺎﻟﺐ ﻟﻮعته
ﻃﺎﻝ ﺑﻪ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦ
ﻓﺎﺽ ﺑﻪ ﺍﻟﺸﺠﻦ
ﻭﺍﻗﻒ ﻳﺮﺩﺩ .. ﻣﻦ ﺯﻣﻦ
ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻳﺎﺍﻟﻄﻴﺮ ﺍﻟﻤﻬﺎﺟﺮ ﻟﻠﻮﻃﻦ..

هذه واحدة من عشرات الأعمال التي استطاعت ملامسة وجدان سامعيه والتي عبر خلالها بفلسفة خاصة انتهجها عبر مقولته بأن اللحن هو ما يكتب للأغنية الخلود ...وقد كان..

التعليقات

فيديو العدد